القرضاوي والأسد.. خلاف عائلي فحسب

شكل موت رجل الدين و”الزعيم” الديني المتشدّد يوسف القرضاوي؛ قبل عدة أيام؛ مناسبة واسعة الطيف من مناصري الرئيس السوري بشار الأسد، للتعبير عن سخطهم من القرضاوي؛ ومواقفه ومنتجاته “الفكرية” وطبيعة خطاباته وأدواره، باعتباره رمزاً أساسياً للحركات والجماعات السلفية والطائفية، في عموم المنطقة وبالذات في سوريا، تلك التي أوغلت في “تدمير سوريا”، بحسب رأيهم، وخلقت شرخاً اجتماعياً داخل البلاد، يُستحال تضميده، وحطّمت التوجُّهات والهوية العلمانية للعقد الاجتماعي والسياسي؛ الذي كانت الأسدية قد أرسته دوماً في سوريا، بحسب رأيهم.

على الدفة النظيرة، كان مناصرو القرضاوي؛ يعتبرون مواقفه وآلية تفاعله مع “الثورة السورية” تعبيراً وشهادة على هوية الشخص، ونزوعه نحو الدفاع عن “الحرية والعدالة والديمقراطية”، ومناهضته للأنظمة الديكتاتورية والقِوى السياسية الشمولية، بالذات تلك العلمانية المُشيّدة على بنى طائفية، حيث كان النظام السوري؛ يمثِّل نموذجاً لكل ذلك، وقد ناهضه القرضاوي بحزم، كفعل مبدئي حاضر في عقله ووجدانه؛ بحسب رأيهم.

ثمة طيف واسع من البراهين والدلائل على تهافت مثل ذلك التنابذ الظاهر وتلك “الكراهية” المُدّعاة، ففي الأساس؛ الشخصان “رمزان” لنهجين سياسيين، وأداتان لاستحواذ السلطة، وإن كان ذلك من مواقع وعبر أدوات وآليات فعل مختلفة تماماً، وما مجموع الخطابات والادّعاءات بتمثيل أحدهما لـ”نهج طهراني”؛ إلا أداة لتكريس وتعميق وتحقيق ذلك النزوع السلطوي.

كانت الزيارة التي قام بها القرضاوي؛ إلى رأس النظام السوري، في ربيع العام 2004؛ دليلاً عيانياً واضحاً على كل ذلك، وأولاً هي برهاناً على المساحة المشتركة الواسعة بين الطرفين، كجهتين تسعيان لمقاسمة بنيان السلطة إن أمكن، الدولة للأسد وأمثاله، والمجتمع للقرضاوي وأمثاله، دلالة على قابلية الطرفين على الاعتراف والقبول والتماهي مع شرعية سلطة ونفوذ الآخر، تجاوز كل العتبات الأخلاقية والإيديولوجية المدعاة.  

في ذلك الوقت، بُعيد سقوط النظام العراقي؛ بشهور قليلة، كان القرضاوي، يرى في النظام السوري لاعباً استراتيجياً في تأجيج الموقف الطائفي العنيف في العراق، انتقاماً من إسقاط نظام سياسي “سُنّي الهوية”، وهو نظام صدام حسين.

كان القرضاوي، يعتبر الأسد؛ المرتكز الأساسي في إفشال مشروع الدمقرطة في المنطقة، الذي كان قد يمتد من العراق إلى بلدانٍ أخرى، وهو أمر كان مرفوضاً من قِبل رجل دين متطرِّف وزعيم إسلامي سياسي مثل القرضاوي.

لم يتوانَ القرضاوي، أثناء تلك الزيارة عن مديح رأس النظام السوري وأدواته ومؤسساته، غير مبالٍ بالطبيعة الشمولية الوراثية للنظام وقتئذٍ، متجاهلاً دماء مئات المواطنين المدنيين الأكراد السوريين الأبرياء، الذين كانوا قد سقطوا قبل أسابيع قليلة من تلك الزيارة، كذلك غضّ النظر عن سجون النظام السوري التي كانت متخمة بآلاف المعتقلين السياسيين، وبالقرب من أفخم فنادق دمشق، حيث كان يقيم القرضاوي ورفقته.

ما كان كل ذلك مهماً بالنسبة للقرضاوي، فالمشروع السياسي الأوسع، المتمثّل في إبراز وتصعيد دور الإسلامي السياسي السُنّي المتشدِّد في كل أنحاء المنطقة، كان شاغله الوحيد؛ ذلك الإسلام السياسي السُنّي الذي كان القرضاوي؛ يعتبر نفسه أباً وزعيماً سياسياً لذلك المشروع، والأسد لاعباً أساسياً ذو دور ضمنه.  

أثناء نفس الزيارة، وعلى الدفة النظيرة، فإن الأسد؛ كان مستعدّاً لتجاوز أية تناقضات مفترضة، إيديولوجيّة وخطابيّة وتاريخيّة؛ مع القرضاوي وما يمثِّله من إيديولوجيا وسياسة وعلاقات مع الجماعات الإسلامية المتطرّفة، فالمهم بالنسبة للأسد وقتئذٍ، كان خلق آلية تحوِّله إلى “زعيم سُنّي إقليمي”، يستطيع عبر تلك “الزعامة” خلق مجموعة من الأهداف والمرامي لصالح تكريس نظامه وتأبيد حُكمه.

فالأسد؛ الذي كان قد وصل إلى الحُكم قبل سنوات قليلة عبر وراثة أبيه، كان ينقصه الكثير من الشرعية وما يماثلها من نقص في الشعبية، لذلك كان التماس علاقة ودية مع الإسلام السياسي السُنّي، عبر شخصيات مثل القرضاوي، ومؤسساته، وعلاقته، وتأثيره النفسي على القواعد الشعبية السُنيّة السورية؛ كان يشكِّل رغبة جمّة بالنسبة للأسد.

كذلك كان الأسد؛ يُعيد ترتيب أوراق نظامه البعثي ضمن اصطفاف إقليمي أوسع، يسعى للتصدّي لجموح الدمقرطة الأميركية، ممتداً من دول الخليج إلى إيران وتركيا، مروراً بسوريا ومصر، كانت تلك الجبهة الإقليمية تعتقد وتعمل بحزم على إخراج فزّاعة التطرُّف الإسلامي السُنّي في المنطقة، لأنها بحسب رأيها الأداة الأكثر حيوية لإغراق المشروع الأميركي بوحل جنون ورعب التطرُّف الديني، وقد نجحت في ذلك، ولأجل هذا، طُلب من جميع أعضاء هذا المحفل الإقليمي أن يتناسوا تناقضاتهم الداخلية، حتى تلك التي يُقال أنها بين موقعين وشخصين مثل الأسد والقرضاوي.

لأجل ذلك، لم يكن القرضاوي؛ متطرِّفاً وداعية إرهاب بالنسبة للدعاية الأسدية وقتئذٍ، التي أُهملت علاقاته ورعايته الوطيدة للجماعات الإخوانية، فشُطِّبت أفعاله وعلاقاته مع تنظيمٍ مثل طالبان، وما كان مناهضاً للعلمانية الأسدية المدعاة وقتئذٍ، بل أصبح رجل دين تجديدي!.

إنهم أعضاء الأسرة السلطوية، ومن يعرف! ربما تعود الدروب وتجمع الطرفين مرة أخرى؛ منظورة، ونرى حفلاً تأبينيّاً للقرضاوي برعاية نظام الأسد، وإشادة حافلة من قِبل تلاميذ القرضاوي بنظام الأسد. وعلى الدوام، سنرى الذين يصفقون حين الالتقاء، هُم أنفسهم يندبون حين الفراق.