الانتقال السياسي

في شهر شباط،1992، بكمبوديا، حصلت تجربة غير مسبوقة بتاريخ منظمة الأمم المتحدة عندما وُضع بلد مستقل عضو في المنظمة الدولية؛ تحت إدارة أجنبية لفترة انتقالية استغرقت خمسة عشر شهراً؛ تحت اسم :”سلطة الأمم المتحدة الانتقالية في كمبوديا- UNTAC”، وقد ترأسها ياباني، وترأس قواتها المسلحة أسترالي، فيما كان قائد الشرطة من نيوزيلندا، وقد ساهمت ست وأربعون دولة في تزويد السلطة الانتقالية المذكورة بالجنود(خمسة عشر ألفاً)، والشرطة(أربعة آلاف)، وأفراد الإدارة المدنية(ألفان وخمسمئة)؛ الذين ترأسوا مفاصل الجهاز الإداري .

قامت هذه السلطة الانتقالية كنتيجة لاتفاق باريس، في تشرين الأول، 1991؛ للسلام في كمبوديا، بعد ثلاثة عشر عاماً من الحرب الأهلية والموقّع من الحكومة الكمبودية ومعارضيها المسلحين الذين كانوا يضمون “الخمير الحمر”، وأنصار الملك نوردوم سيهانوك، وبمشاركة تسع دول قامت بالتوقيع على الاتفاق.

 وخلال الفترة الفاصلة، حتى الانتخابات في أيار، 1993، التي صادق على نتيجتها مجلس الأمن الدولي بالقرار840، لعام1993، قامت سلطة الأمم المتحدة بتنظيم وإدارة عملية الانتقال السياسي لبلدٍ من حرب أهلية إلى سلام تُدير البلد فيه حكومة منتخبة، وقد شملت تلك العملية ترميم البنية التحتية للبلد، ونزع وتسلُّم الأسلحة من التنظيمات المسلحة، وإعادة تأهيل اللاجئين وتسكينهم في ديارهم بعد عودتهم إليها، وتسجيل الأحزاب السياسية، وإصدار قانون للانتخابات، وتسجيل الناخبين مع إعطائهم بطاقة انتخابية، ثم الإشراف على عملية الانتخاب لجمعية كانت مهمتها صياغة دستور صدر؛ في أيلول/سبتمبر، 1993، ولتتحوّل بعده لبرلمان.

هنا، كانت الإدارة الدولية لكمبوديا؛ سلسة بعد صراع دموي ذهب فيه مئات آلاف القتلى، وكان صراعاً دعم فيه الاتحاد السوفياتي وفيتنام؛ الحكومة، فيما وقفت الصين والولايات المتحدة خلف المعارضة المسلحة، وقد كانت هزيمة السوفيات في الحرب الباردة، وعلامات الانهيار السوفياتي؛ قد دفعت بالحكومة الكمبودية وداعميها الفيتناميين للقبول باتفاق باريس في وقتٍ أصبحت فيه المعارضة المسلحة تسيطر على عموم الريف.

 وعندما فاز أنصار “سيهانوك” بالمركز الأول بالانتخابات(45%)، اضطرّ أنصار (حزب الشعب) الحاكم منذ الغزو الفيتنامي لكمبوديا؛  الذي أزاح حكم “الخمير الحمر” عام 1979؛ للقبول بالمشاركة وتحت صيغة “رئيس وزراء أول ورئيس وزراء ثاني”؛ حيث تولّى ابن نوردوم سيهانوك؛ الأمير نوردوم راناريده؛ المنصب الأول قبل أن يُطيح به شريكه (هون سين) من (حزب الشعب)، عام1997، ثم يضطرّ بالانتخابات اللاحقة للقبول بالمشاركة من جديد مع الأمير راناريده؛ حيث تولّى الأخير رئاسة البرلمان، وهو ما أمّن لكمبوديا استقراراً مازالت تعيشه حتى الآن.

يمكن في هذا الصدد، تفحّص مصطلح (الانتقال السياسي)؛ الذي يشمل حالات متعددة ليكون انتقالاً من حرب أهلية مسلّحة إلى وضع سلمي تنتظم تحته وفي إطاره آلة الدولة وفق آلية انتخابية للمؤسسات السياسية الحاكمة، وهذا رأيناه في كمبوديا وأنغولا أيضاً، بعد عام1991، وهي شبيهة بالحالة الكمبودية من حيث حرب أهلية مسلّحة منذ 1976، بين الحركة الشعبية المدعومة من السوفيات والكوبيين، وحركة يونيتا المدعومة من جنوب أفريقيا والولايات المتحدة، وعندما رفضت يونيتا نتائج انتخابات 1992، استُؤنف النزاع المسلّح ولم تستقرّ الأوضاع حتى عام 2002، عندما تمّ قتل جوناس سافيمبي؛ زعيم يونيتا، وقبلت قيادة الحركة بالآلية السياسية القائمة وفق اتفاق1991، وفي البوسنة بعد اتفاق دايتون عام1995، وفي لبنان بعد اتفاق الطائف عام1989؛ هذا الاتفاق الذي مثّل انتقالاً للبنان؛ من نظام صيغة 1943؛ إلى نظام سياسي جديد صاغه (الطائف) حيث أُنهيت الحرب الأهلية المبتدئة عام1975، وأتى سلام ما بعد الطائف؛ ولكنه كان هشّاً وأقرب للنار تحت الرماد.

في هذه الحالات الأربع، الكمبوديّة، والأنغولية، والبوسنية، واللبنانية؛ لم يكن الانتقال السياسي من الحرب الأهلية، والتي هي حسب تعريف تروتسكي؛ “تجزئة السلطة” بين مركزين متصارعين إلى السلم؛ نتيجة لعوامل داخلية، بل الوضع الدولي- الإقليمي؛ كان قد أجبر المتحاربين على الاتفاق.

كانت آلام الولادة كبيرة، ولكن بالحالات الأربع؛ ولد الصبي وعاش واستمر ولم يمت، كما أن الانتكاس نحو التقاتل بالسلاح لم يعد رغم الحالة الأنغولية، بين عامي 1992و2002، التي استخدم فيها السلاح من جديد بعد الاتفاق ثم عمّ صمت الأسلحة، ورغم حالة 7 أيار/مايو، عام 2008، في بيروت؛ عندما اجتاح مسلّحي “حزب الله” العاصمة اللبنانية، حيث لم يعقب هذا امتشاق السلاح؛ بل (اتفاق الدوحة)الذي كان تعديلاً على (اتفاق الطائف).

هناك حالة أخرى من الانتقال السياسي، هي الانتقال من الديكتاتورية إلى النظام الديمقراطي، كما جرى في البرتغال منذ عام1974، وإسبانيا 1975؛ بعد وفاة الجنرال فرانكو، والأرجنتين1983، وتشيلي1990، حيث كان الانتقال ناجحاً، لكن في بلدان عربية لم ينجح الانتقال السياسي من الديكتاتورية إلى النظام الديمقراطي، ففي مصر بعد الإطاحة عبر ثورة شعبية بحكم الرئيس حسني مبارك عام 2011، عادت المؤسسة العسكرية  للحكم من جديد مع انقلاب 3 تموز/ يوليو،2013، الذي  أطاح برئيسٍ منتخب، وفي تونس بعد الإطاحة عبر ثورة شعبية بالرئيس زين العابدين بن علي، عام2011، استقرّ النظام الديمقراطي وأنتج دستوراً، ولكن الأزمة الاقتصادية منذ عام 2019، وعدم قدرة الأحزاب السياسية على إدارة حكم مستقر؛ قد أتاح المجال لبروز ظاهرة رئيس للجمهورية في نظامٍ مختلط رئاسي- برلماني؛ اتجه عبر انقلاب فوقي في 25تموز/يوليو، عام2021، نحو أن يجمع السلطة التنفيذية كلها في يديه ثم أن يضع السلطة القضائية تحت يديه بعد أن حلّ السلطة التشريعية (البرلمان)، وأن يصبح ديكتاتوراً مدنياً يجمع السلطات الثلاث في شخصه.

في ليبيا واليمن كانت الإطاحة بالديكتاتور عام2011، ليست انتقالاً إلى نظام ديمقراطي جديد بل إلى حرب أهلية مسلّحة بين مركزين للسلطة، ليس المجال هنا لدراسة آليات الانتقال الناجحة في البلدان الأربعة المذكورة آنفاً، ولا لدراسة عوامل الفشل لعملية الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية في البلدان العربية المذكورة؛ وإنما القصد هو الإشارة إلى هذه الظاهرة بكل ما تحويه من قضايا وإشكاليات.

ربما هنا السودان، وهو حالة وسيطة بين الانتقال الناجح مثلاً: (إسبانيا بعد فرانكو)، وبين عودة الحكم العسكري بعد الإطاحة بالديكتاتورية مثلاً: (مصر ما بعد 3تموز/يوليو،2013)؛ يقدم إجابة ولو أولية على هذه القضايا والإشكاليات، حيث أطاح العسكر برئيسهم مستغلين ثورة شعبية، ولكنهم لم يستطيعوا الانفراد بالسلطة، وهو ما اضطرّهم في آب/أغسطس، عام 2019، بعد أربعة أشهر من انقلابهم على الفريق عمر البشير؛ لعقد اتفاق شراكة مع المدنيين من الأحزاب والمنظمات المهنية، ولكنه كان زواجاً قلقاً.

 وعندما قاموا بانقلابهم الثاني في تشرين الأول الماضي، وفضّوا الشراكة مع المدنيين؛ لم يستطيعوا أيضاً ولمرة أخرى أن يستقرّوا على كرسي السلطة، وهم يبحثون الآن عن شراكة ثانية أصبح فيها المدنيون أقوى من حيث توازن القِوى، ولكن من دون قدرتهم على إزاحة العسكر من السلطة وإجبارهم على العودة للثكنات، كما حصل مثلاً في تشيلي عام1990.