قولٌ في “الصّحوة” الإسلامية: الأسباب والنتائج

في حلقة نقاشية جمعتني مع بعض الأصدقاء كان موضوعها الرئيس هو: “الصّحوة الإسلامية” وقد تطرَّق النقاش إلى أسباب وظروف هذه “الصّحوة”، وإلى الدور السياسي الذي تؤديه في الوقت الراهن، وإلى مآلها في نهاية المطاف. ونظراً لأهمية الموضوع؛ فقد وجدت من المناسب نقله من الحيِّز المغلق إلى الحيِّز المفتوح؛ علّه يُثير نقاشاً أوسع.

إن الحديث عن “الصّحوة” الإسلامية، وهي تسمية أطلقها الإسلاميّون على أنفسهم، يُحيلنا مباشرةً لا إلى دورٍ نهضويّ مُعيّن يمكن أن تتضمّنه الصّحوة؛ بل إلى تلك الإشارة المُتضمَّنَة في الخطاب السياسي اليومي، والتي تعاير الدخول النَّشِط للحركات السياسية الإسلامية، في ميدان المُعترك السياسي الراهن، لقد كانت الهيئات الدينية والإسلام الأيديولوجي عبر التاريخ في خدمة السُلطة القائمة، هكذا كانت منذ نحو 1400 سنة، ولا تزال مستمرة في خدمة السُلطات في العصر الراهن، ولكن الاستثناء الوحيد في هذا السّياق هو ما حصل في إيران، عندما نجح رجال الدين في الوصول إلى السُلطة، وبالتالي صاروا يخدمون أنفسهم وليس غيرهم. وحتى في المثال الإيراني فقد تمّ توظيف الدين والأيديولوجيا الدينية في خدمة بناء الدولة، بقراءتهما من منظور نهضويّ مُعيّن؛ سمح لرجال الدين الإيرانيين بالتركيز على الاستجابة لتحدّيات العصر على الصعيد العلمي والتكنولوجي والاقتصادي وقد حققوا نجاحات مشهودة.

بالنسبة للإسلام السياسي في العالم العربي؛ فهو في غالبيته العُظمى يشتغل على الأسئلة ذاتها التي أخفق القوميّون واليساريون عموماً في الإجابة عنها، وتسبّبت في خروجهم من دائرة الفعل السياسي، وهي الأسئلةالمُتعلِّقة بالخروج من التخلُّف، والسبب في ذلك هو عجزهم عن بناء النظام السياسي المتوافق مع مُتطلّبات العصر وفق شروطه ومُتطلّباته، وبدلاً من ذلك؛ أعادوا إنتاج النظام الاستبدادي ذاته بأبشعِ صوره كما فعل البعثيّون والناصريّون، أو كما فعل اليساريّون في جنوب اليمن.

وإذ يحاول الإسلام السياسي في البلدان العربية الإجابة عن أسئلة التخلُّف، فلا يقترح نظاماً غير النظام الاستبدادي ذاته، وهو في ممارسات بعض اتجاهاته؛ يُقدِّم نموذجاً عن هذا النظام شبيهاً بالنظام الطالباني في أفغانستان، غير أن بعض اتجاهاته الأُخرى الأكثر اعتدالاً؛ فيحاول أن يبدو عصرياً، وهو في حقيقته لم يقطع مع الماضي الاستبدادي؛ الذي سرعان ما يرتدّ إليه في اللحظات الحاسمة.

ونظراً لأن الإسلام السياسي من النوع الأول؛ يجد في الماضي الحلّ للمشكلات الراهنة، فهو يرفض بالتالي الدخول في العصر وفق شروطه ومُتطلّباته، بل وفق شروط ومُتطلّبات الماضي، وخصوصاً اعتماد العنف كوسيلة لتحقيق طموحاته السياسية.

النوع الثاني من الإسلام السياسي؛ هو الآخر يعمل على نموذج سياسي استقاه من الماضي، لكنه يحاول بناؤه بوسائل وأدوات العصر، كما يفعل الإسلام الإيراني مثلاً، أو من نهج نهجَه بهامش من الاختلافات التي تُراعي الخصوصيات المحلية أو العقائدية مثل حزب الله في لبنان، أو الإخوان المسلمين في مصر، أو حزب النهضة في تونس، أو تيّار الترابي في السودان، أو الإخوان المسلمين في سوريا، وغيرهم في بلدان عربية أُخرى، لذلك فإن العديد من المفردات السياسية المعاصرة، أخذت طريقها كشكلٍ إلى خطاب هذا النوع من الإسلام السياسي، مثل مفاهيم الديمقراطية والحرية والاختلاف والتسامح وغيرها الكثير، أقول شكلاً لأنها في الخطاب السياسي أو الفكري الواحد تحايثها مفردات فكرية وسياسية أخرى نقيضة لها، لكنها أكثر أصالة واستقراراً منها من قبيل: الحاكمية لله، وثنائية الإيمان والكفر، والحضور الكثيف للتراث؛ كمرجعية في فكر وسلوك هذا النوع من الإسلام السياسي، لم يعُد أي مجال معرفي أو علمي أو اجتماعي إلا وصبغوه بصبغة إسلامية، حتى العلوم الطبيعية حاولوا إعطاءها صبغة إسلامية في التعبير عن نزعة مفرطة للتمايز، فهناك الاقتصاد الإسلامي، وعلم الاجتماع الإسلامي، والفن الإسلامي، والتربية الإسلامية، وحتى الرياضيات الإسلامية، والفيزياء الإسلامية، والنّكاح على الطريقة الإسلامية. لقد أصبحت صفة “الإسلامية”؛ لازمة لأي ميدان معرفيّ أو سلوكي لدى تيّارات الإسلام السياسي على اختلافها، هذا النمط من التفكير والسلوك لا يقبل أن يتحدّد على قاعدة الاختلاف مع غيره؛ بل على قاعدة النفي وهذا من طبيعة الاستبداد، وبالتالي فهو يتناقض بنيوياً مع الديمقراطية وما يرتبط بها من مفاهيم مثل؛ الحرية، والتعدّدية، والاختلاف، وتبادل السُلطة، وفي أحسن حالاته يمكن أن يقبل بها تكتيكياً أو في إطار الاتجاه الواحد، ومن هذه الناحية فإن الإسلام السياسي “المُعتدل” لا يختلف عن التيّارات القومية واليسارية التي سبقته وعرَّفت ذاتها بأنها علمانية، وقدمت نماذج في الحُكم الاستبدادي بامتياز، وتسبّبت ولا تزال تتسبّب في الكثير مما تعانيه الشعوب العربية من تدهّور شامل على كل الصُعُد؛ الوطنية والقومية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وإذا كان هذا التدهّور الشامل في وجهٍ من وجوهه هو من الأسباب الرئيسية لصعود الإسلام السياسي بمختلف أشكاله، إلا أن هذا الصعود لا يُشكِّل صحوة بالدلالة النهضوية لمصطلح “صحوة”، ولا يُشكِّل في الحد الأدنى إيقافاً لعملية التدهّور الجارية والمستمرة، بل تسريعاً لها من خلال تأجيجه للصراعات الطائفية والمذهبية، عداك عن السياسية.