الدروس المستفادة من الدبلوماسية السابقة مع روسيا فيما يتعلّق بسوريا والتداعيات على السياسة الأميركية اليوم

إذا كان الشرق الأوسط بمثابة مقبرة السياسة الخارجية الأميركية في هذا القرن، فإن سوريا تُمثّل بالمقابل الشبح الذي يُؤرِّق هذه السياسة على نحوٍ مستمر، بدءاً من “الخطوط الحمراء” التي أعلن عنها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما؛ عام 2013، المتعلقة بالأسلحة الكيميائية، وصولاً إلى مساعي ترامب المتكرّرة والخاطئة حول سحب القوات الأميركية.

وشهد الشرق الأوسط أيضاً توتراً عسكرياً روسياً-أمريكياً؛ مستمراً، منذ الحرب الباردة، حيث تدخّل كِلا البلدين في البداية لتحقيق أهداف محدودة: الولايات المتحدة لدعم المعارضة في الحرب الأهلية ضدّ نظام الأسد الوحشي، ولاحقاً لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية الذي أطلق العنان لهذه الحرب؛ والروس لدعم حليفهم الإقليمي الرئيسي والحفاظ على برنامجهم العسكري الإقليمي الوحيد.

لكن وفي النهاية، توسّع النزاع ووصل إلى مرحلة، من الذي سيحدّد نظام الأمن الإقليمي هناك؟، حيث لعبت روسيا وباستمرار دوراً إقليمياً ضعيفاً مع أصول عسكرية واقتصادية محدودة، حيث قامت أولاً بتأمين أهداف سوريا المُعرّضة للخطر، ثم استغلت تناقض واشنطن على الرغم من أصولها الإقليمية المتفوقة واستثماراتها الأكبر في النظام الإقليمي، أما اليوم وفي ظلّ الصراع الأوكراني، من المحتمل أن تصبح سوريا مسرحاً لتنافس القِوى العُظمى والإقليمية الخفية، كي نفهم ما نعايشه الآن، من المُفيد أن نلقي نظرة على الصراع السوري.

الحروب السورية الثلاثة

من عام 2011 إلى عام 2018 تقريباً، توسّع الصراع السوري ليشمل ثلاثة حروب مرتبطة؛ الأولى كانت الحرب الأهلية بين نظام الأسد وسكانه، خاصة مع العرب السُّنة وبدرجة أقل مع السوريين الكُرد، وكانت حرباً وحشية قُتل فيها أكثر من خمسمائة ألف شخص، وشُرِد نصف السكان البالغ عددهم 24 مليوناً؛ ليصبحوا نازحين ولاجئين. كانت المعارضة مدعومة في البداية من قِبل الدول العربية وتركيا والولايات المتحدة، ولكن الآن بقيت تركيا وحيدة في دعم المعارضة المسلّحة، وبحلول عام 2016؛ خاصة مع دخول روسيا؛ بات واضحاً أن النظام تجنّب الهزيمة.

في الحرب الثانية، انخرطت خمس دول خارجية وهي: إسرائيل، وروسيا، وإيران، وتركيا، والولايات المتحدة؛ بأهدافٍ تتجاوز الانحياز إلى أطرافٍ في تلك الحرب الداخلية الأولى. بالنسبة لروسيا: أصبحت تُقدِّم نموذجاً أمنياً إقليمياً بديلاً، وربما حتى “لإسقاط” نظام الأمن الجماعي الأميركي، أما بالنسبة لإيران: كان الهدف من تدخُّلها تعزيز رؤيتها الإقليمية بما في ذلك تشكيل “جبهة صاروخية” أخرى ضد إسرائيل، وكان هدف الولايات المتحدة هزيمة “دولة داعش” الإرهابية، أما تركيا: فقد سعت لتحقيق أهداف متعدّدة كمحاربة فرع حزب العمال الكردستاني؛ وحدات حماية الشعب (التي أُعيد تسميتها من قِبل الولايات المتحدة باسم “قوات سوريا الديمقراطية أو قسد”)، وحماية حدودها من داعش والإيرانيين والأسد. أخيراً، جاء تدخُّل إسرائيل بهدف احتواء “الجبهة الصاروخية” الإيرانية، إن وجود هذه القوات العسكرية الخارجية الخمس التي تتصادم مع بعضها من وقتٍ لآخر، يُعقِّد الصراع السوري إلى حدٍّ كبير. 

أما الحرب الثالثة، تتمثّل في الصراع السياسي المُتمركِّز في سوريا، حول الهيكل الأمني ​​الإقليمي. ما إن قام كل من إيران وروسيا بإنقاذ نظام الأسد، حوّلا أنظارهما إلى الجائزة الأكبر، ألا وهي جهودهم المُنسّقة إلى حدٍّ ما والمتناقضة إلى حدٍّ ما؛ لإعادة كتابة سيناريو أمن الشرق الأوسط، وقد أدركت الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا هذه الطموحات، لكنهم ركّزوا بشكلٍ عام على أهدافهم المباشرة في سوريا، وكانوا متناقضين في الدفاع عن نظامهم الأمني ​​الذي هو هدف سياستهم الأساسي. كانت هذه الحرب الثالثة هي الأقل تعريفاً وتحليلاً وذلك لأن الأزمة الأوكرانية قد غيّرت الوضع.

تطوُّر تقارُب الولايات المتحدة  

قدمت إدارة أوباما، في البداية الدّعم للمعارضة السورية، بما في ذلك الدعم العسكري، كجزء من احتضان الإدارة الشامل للربيع العربي، لكن لم يكن هناك التزام عميق بالفوز، وسرعان ما فقدت الإدارة الاهتمام، وأبرز موقفها فشل “الخط الأحمر” (قيام الولايات المتحدة بعمل عسكري في حال استخدام نظام الأسد للأسلحة الكيميائية-المترجم) الذي كلفها الكثير من المصداقية، والتحوُّل في الأولويات إلى اتفاق نووي مع إيران ومحاربة داعش، ومع ذلك؛ واصل وزير الخارجية آنذاك جون كيري؛ السعي لإيجاد حلٍّ وتغلّبَ على الروس، في كانون الأول/ديسمبر، 2015؛ لقبول قرار مجلس الأمن رقم 2254، وهو حلٌّ وسط دبلوماسي كلاسيكي يدعو إلى وقف إطلاق النار، ووضع دستور جديد، ومصالحة الدولة السورية مع المعارضة.

 منع الروس، الذين كانوا واثقين من النصر العسكري، من تنفيذ القرار 2254، وسعى كيري، دون جدوى من الرئيس أوباما؛ لردٍّ عسكري لإحباط مثل هذا النصر وإجبار الروس والأسد على التسوية.

وبالنسبة لإدارة ترامب؛ كان التركيز الأولي للسياسة تجاه سوريا؛ هو إعطاء الأولوية لمحاربة داعش، وإدارة التوتّرات مع تركيا بسبب دعم واشنطن لوحدات حماية الشعب/قوات سوريا الديمقراطية؛ في محاربتها لداعش، وتغيّر ذلك التركيز مع ظهور وزير الخارجية مايك بومبيو، في منتصف عام 2018، بحلول ذلك الوقت، كانت “الحرب الكبرى” ضد داعش قد انتهت إلى حدٍّ كبير، وركّزت الإدارة على احتواء إيران؛ بما في ذلك في سوريا، حيث اجتذبت عمليات نشر الصواريخ الإيرانية القوة الجوية الإسرائيلية، لكن لا يزال هناك جزء من البيروقراطية الأميركية يسعى إلى حصر الجهود في سوريا، في احتواء فلول داعش وتجنُّب المواجهة مع الأسد وإيران وروسيا.

 ومع ذلك، كان بومبيو؛ ينظر إلى سوريا من منظور تلك الحرب الثالثة، وهو الصراع على نظام الأمن الجماعي الذي سيُهيمن على النظام التقليدي الذي تقوده أميركا، أو البدائل الإيرانية والروسية.

تبنّى بومبيو؛ استراتيجية جديدة لحشد الدعم الدولي الكبير، بما في ذلك في الاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية، وتركيا، وإسرائيل، والمعارضة السورية، وقوات سوريا الديمقراطية، والأمم المتحدة من أجل حلٍّ وسط يستند إلى القرار 2254، ولدعم هذا المسعى، بدأت مرحلة العُزلة الدبلوماسية وتعزيز العقوبات الاقتصادية على دمشق؛ مع وزير الخارجية الحالي جون كيري، لكن الإدارة شكّلت أيضاً تحالفاً عسكرياً سعى إليه كيري، دون جدوى؛ لعرقلة المزيد من التقدُّم العسكري للأسد، وهذا كله تطلب تنسيقاً قوياً مع تركيا، التي كان احتلالها لجزء كبير من شمال سوريا ودعمها للمعارضة المسلحة أمراً ضرورياً، إلى جانب دعمٍ عمليّاتي أكبر للحملة الجوية الإسرائيلية، واستمرار تمرّكز القوات الأميركية في سوريا؛ ضد غرائز الرئيس ترامب، لاحتواء داعش وحرمان الأسد من الأراضي.

 وقد تجلّى ذلك في سلسلة من المواجهات الأميركية مع النظام والبديل الإيراني وقوات المرتزقة الروسية، كان هذا “التحالف” مزعجاً، حيث كانت إسرائيل وتركيا؛ بالكاد تتحدثان وكانت العلاقة مع الأخيرة، حليف أميركا في المناطق التي تسيطر عليها أنقرة في شمال غرب سوريا؛ مُعقّدة بسبب معارضتها لوحدات حماية الشعب/قوات سوريا الديمقراطية، وحقيقة وجود الولايات المتحدة في الشمال الشرقي، ولكنها صمدت رغم ذلك. 

الوضع الحالي

كانت النتيجة حالة من الجمود العسكري بحكم الواقع منذ عام 2018، حتى الوقت الحاضر، حيث يخضع حوالي نصف السكان لسيطرة الأسد، وثلث البلاد بثرواتها الزراعية والنفطية لسيطرة تركيا وقوات المعارضة الموالية لها من جهة، والولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية من جهة أخرى.

 قدمت الولايات المتحدة لروسيا من خلال لقاء (بومبيو- بوتين)، في أيار/مايو، 2019؛ حلاً تدريجياً للصراع من خلال تنفيذ القرار 2254، لكن لم يتمّ كسب الروس بعد، وكانت إدارة ترامب؛ تملك ما يكفي من الأصول الدبلوماسية والعسكرية لتجميد الصراع مما يحرم روسيا وإيران من تحقيق نصر استراتيجي في تلك “الحرب الثالثة” للأمن الإقليمي، في حين كان الحل الوسط هو الأفضل، حيث اعتبرت الإدارة أن هذا الاحتياطي مفيد بما يكفي لإبقاء تلك الجهود قائمة. 

في البداية، قلّلت إدارة بايدن، من شأن سوريا، وأنهت المحادثات مع الروس مع التركيز على جهود مكافحة داعش والمساعدات الإنسانية، وعكست هذه اللامبالاة التقريبية المتعلقة بالصراع؛ التناقضات الواسعة للإدارة فيما يتعلق بالشرق الأوسط، فقد تولّى الرئيس بايدن، منصبه مؤكّداً على منافسة القِوى العظمى مع روسيا والصين، لكن لم يكن واضحاً بشأن ما إذا كان هذا يمتد إلى الشرق الأوسط أم لا.

 في الواقع، تمّ تجاهل الدور الإقليمي المُهدِّد لروسيا إلى حدٍّ كبير، وكانت الأولوية مع إيران هي الاتفاق النووي لخطة العمل الشاملة المشتركة، بدلاً من مواجهة تقدمها الإقليمي، ومع ذلك، حافظ الجيش الأميركي على مستويات القوة الإقليمية الشاملة، بما في ذلك في سوريا.

 في الواقع، وبينما لم يكن لسياسة بايدن؛ في سوريا، نهج سياسي شامل يمكن التعرّف عليه، فقد استمرت معظم السياسات المحددة السابقة بما في ذلك: عزل الأسد، والعقوبات، والالتزام بقرار مجلس الأمن رقم 2254، ودعم العمليات الإسرائيلية وتركيا في الشمال الغربي، ووقف إطلاق النار التي جمّدت الصراع.

جاء التحوّل الرئيسي في السياسة الإقليمية الأميركية مع حرب أوكرانيا، التي أعادت إلى الوطن مدى التهديدات التي يتعرّض لها النظام الدولي واعتماد واشنطن على الدول العربية وإسرائيل، وبالتالي، فقد تطلّب الأمر من أوكرانيا، إقناع واشنطن مرة أخرى بأن الحفاظ على هذا النظام ضدّ التحدي الخارجي هو مهمة وحيدة.

 ألهمت هذه الحقائق الجديدة رحلة الرئيس بايدن، الإقليمية، في تموز/يوليو، وكانت في الأساس مبادرة لتعميق الجهود التي تقودها إدارة ترامب، بقيادة اتفاقات “أبراهام” بشأن تحالفٍ إقليمي مناهض لإيران، في حين أن مدى هذا الالتزام الأميركي الجديد باحتواء إيران وروسيا ضمنياً لم يتّضح بعد، فإن هذا الالتزام من الناحية العملية يستبعد أي إضعاف للموقف الأميركي في سوريا لصالح تلك الدول المفسدة. 

الآفاق 

باختصار، تقبل الإدارة الآن ضمنياً، أهمية تلك “الحرب الثالثة” في سوريا، بالنسبة للنظام الأمني ​​الإقليمي، وبالتالي فهي تحافظ على صراع مجمّد لصالحها بشكل هامشي؛ نظراً لانخفاض التكاليف ونفور واشنطن من البدائل وخاصة إن التوصُّل إلى حلّ تفاوضي مع موسكو كما سعت إليه الإدارتان الأخيرتان؛ يكاد يكون مستحيلاً بينما تشتعل حرب أوكرانيا.

 ومع ذلك، فإن السياسة الأميركية الحالية تنطوي على مخاطر، حيث تسعى دول إقليمية مختلفة إلى التقارُب مع دمشق، لكن رفض الأسد تقديم تنازلات مع نصف السكان المعارضين له؛ أعاق الحركة الحقيقية حتى الآن.

 والأخطر من ذلك، إن نزاعات “الحرب الثانية” التي تشمل تلك الدول الخارجية الخمس، يمكن أن تتصاعد. رابعاً؛ إن كل من إسرائيل، وروسيا، وتركيا، وإيران، غير راضين عن مكاسبهم، ويمكن لأحدهم أن يرفع من الرهان، وفي الآخر؛ يمكن للحدث الخاطئ بين أي مجموعة من هذه الدول وقوات الأسد وعدد كبير من الجهات الفاعلة دون الوطنية؛ أن يُشعل المعارك الكبرى، وهكذا تظلّ سوريا، القضية الأكثر خطورة في المنطقة بالإضافة للبرنامج النووي الإيراني. 

المقال كتبه المبعوث الأميركي السابق لسوريا جيمس جيفري لمعهد هوفر وترجمته نورث برس