طقس التواقيع

أحمد السّح

إن أهم ما عليك وضعه في ذهنك حين تختار أن تكون كاتباً، أن القارئ المُسترخي على أريكته؛ منتظراً وصول كتابك إليه، ليباركه بقراءة، سارِع بخسارته؛ إنه لن يُفيدك بشيء، فهو ليس قارئاً أصلاً.

ربما تبدو هذه القناعة متعالية، وفيها بُعد عن التواضع الذي سعى الكتّاب دائماً أن يظهروا فيه، عسى ولعلّ أن يحصلوا على أكبر قدر من القرّاء، ولتكون كُتبِهم حاضرة بين الجمهور، وهذا ليس من دأب الكتّاب ولا من شأنهم، فهو خصلة اجتلبتها الموجات الحداثوية من الفنانين والمشاهير، ومن ثمّ البلوجرز، والفاشينستات، وبات على الكُتّاب أن يستنسخوا من صفات تلك المهن؛ صفات أخرى تجعلهم بعيدين عن الهدف الأساسي ألا وهو الكتابة.

كيف يمكن أن تتخيّل، أنك لن تقرأ لنزار قباني، أو بودلير، أو حسنين هيكل؛ إن لم يكونوا معك ومتواضعين في استقبالك، هل تستردّهم من عالم الأموات؟…، هؤلاء موتهم حديث، فكيف نعيد إليك أرسطو، أو آنيخدوانا، أو سوفوكليس..، أظن ذلك صعباً؛ لذا صار من الضروري أن تعرف أن الكاتب يقدّم لك الفائدة، لا صفاته أو صداقته الشخصية، فغالباً لدى الكُتّاب، والشعراء، والأدباء؛ صفات كريهة يعرفها عنهم المقرّبون منهم، لكنها بجميع الأحوال ليست من شأن قُرّائهم، ربما يعرفونها من سيرهم الذاتية فقط إن أحسن هؤلاء التعبير عنها، فمنهم من يتّصف بالبخل، ومنهم من يتّصف بالجُبن، ومنهم من يتّصف بالنميمة. أذكر صديقاً أخبرني يوماً؛ عن كاتب كان رمزاً من رموز المقاومة، وكان مراسلاً حربياً أو ما شابه في الحرب الأهلية في لبنان، ولكن حين سقطت قذيفة هاون في البيت الذي يسكنه هو وشبّان، كان الأديب الذي يحثّ الناس بأدبه وصحافته على بذل الغالي والرخيص، قد بذل بقعة بول كبيرة غطّت الأرض تحته، أكثر مما فعلت شظايا قذيفة الهاون.

دأبت دور النشر والكتاب، على إقامة ما يُسمّى حفل توقيع أو انطلاق كتاب، وهو نوع من الترويج الذي يُسهِّل على القارئ والكاتب؛ حُسن اللقاء، وتحقيق نوع من الأُلفة والتعرُّف، وربما التعريف بالكتاب إن حضر أحد قُرّائه للتنويه للقراءة، وهو أمر حسنٌ إلى حدٍّ ما، ولكن لكل شيء سلبياته الغريبة، وخاصة بعد أن حدثت مطبّات السوشيال ميديا وفعلت فعلتها، وصار الكاتب مُطالباً أن يكون صديقاً لكل قُرّائه، وهو أساساً لا يتوقّع أن يحضُر من الناس إلا الأصدقاء، وبعض الحسّاد والحاقدين. عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يمكن القول؛ إن الكاتب قد لا يعرف جميع من عنده في صفحته الشخصية، وغالباً لا تكون شهرته قد فاقت الآفاق، وهذا لا يعني أهميته من عدمها، فكُتَّابٌ كبار؛ تتمنى الجلوس معهم، للتعلُّم منهم لا يحضر توقيعهم إلا أصدقاء وبعض القُرّاء، وحسّاد وحاقدين..، نعم نعم الحسّاد والحاقدين؛ يحضرون وهذه حقيقة متعارفة، لا تعني على الإطلاق أن هذا سيُغني الكاتب أو يُفيده في ريع الرواية، أو بيعها، أو إكثار عدد متابعيه، بالعكس؛ فهم يحضرون غالباً لمراقبة ما يحدث، تلقّي الضايفة، ومن ثم الحصول على نسخة مجانية من الكتاب ومغادرة المكان لرمي الكتاب لأبعد مكان، لا يمكن لأيديهم أن تصله، قائلين في سرِّهم، نحن نعرف الكاتب فلان كله، وبالتالي لا نريد أن نفتح كتاباً لنقرأ ما يُقدِّمه، وهذه بحدّ ذاته مطب كبير، يقع فيه الكتّاب حين ينتظرون هذا النوع من القُرّاء، فهم أساساً يضعونه ومنتجاته في جيبهم مجاناً ولا ينطقون إلا عن الهوى!

يغلب على توقيع الكاتب، محاولةَ أن يكون الجو هادئاً ولطيفاً واحتفائياً بالمُنتج الجديد؛ مُنتظِراً من القُرّاء أن يسارعوا في تقديم رؤى نقدية تساهم في انتشار الكتاب، ووصول أفكار الكاتب إلى الناس، وهذه حقيقة مقبولة ومنطقية، ولكن السرّ الأهم في كل هذا، حين يقوم القُرّاء الحقيقيون على قِلّتهم؛ بالتعامل مع الكتاب ونشره بين فئاتهم، الفئة التي لا تريد تقييماً أو نقداً أدبياً أو علمياً، فكل ما تريده هو أن تقرأ كتاباً تستمتع به وتستفيد منه، ومن ثم تقول بكل بساطة أعجبني أم لم يعجبني، أما الدراسات والآراء والأبحاث النقدية وما إلى هنالك؛ فهي حالة تراكمية تحتاج زمناً طويلاً ونِتاجاً فريداً، يستحقُّ المتابعة والاهتمام، مع أن طقوس توزيع الكتب وحفلات التوقيع في سوريا؛ تتراجع وتتقلّص مثلما يتقلّص حجم القُرّاء، ويتقلّص حجم المتابعات النقدية .

ومثلما هو أثر الكتاب طويل المدى إن كان ناجحاً، فإن تشكُّل هذا الأثر بطيء جداً، ولا يحدث بطريقة الفورة الفرجوية لفيلم أو مسلسل أو فيديو كليب، مع أن بعض الكتب انتشرت بهذه الطريقة، ولكن خلال مدة زمنية ليست بالقصيرة، وإن بدا أنها انتشرت وذاع صيتها، إلا أنه يتقلّص تدريجياً، كلنا نذكر قبل عدة سنوات واحداً من أسوأ الكتب الصوفية بالمطلق ( قواعد العشق الأربعون)؛ للتركية إليف شافاك، كيف تناقله القُرّاء وكأنه تحفة الأدب الصوفي، بينما هو كتاب تجاري، لا يعكس حتى شخصيتها، ولا أعرف من قال لها أيضاً أن للعشق قواعداً وعددها أربعون، ولكن هذا النفير العام، أدى إلى ترجمة وطباعة كتبها لتصير كاتبة رائجة.

خلال سنوات الحرب، كان الطقس الاحتفائي بكتابٍ؛ أكثر حميمية، ربما لأن فيه وجهاً من وجوه التأكيد على الرغبة بالحياة، ولكن اليوم وسط دوامة العصف الاقتصادي، بات الكاتب والقارئ يرتعبان من حالة توقيع كتاب، فالمكان الذي يجب اختياره الكاتب قد يكون مُكلفاً أو ربما يكون مجانياً من صديق داعم، كما أن القارئ يجب أن يكون قادراً على تأمين المواصلات إلى المكان، لأن الكارثة في التكاليف وفي آلية الوصول، عدا عن سعر النسخة من الكتاب التي مهما حاول الكاتب ضغطها تبقى أسعار الورق والحبر والغلاف وما إلى هنالك؛ أشياء يصعب السيطرة عليها، وترفع من سعر الكتاب وتجعل الجميع في مواجهة أزمة اقتصادية؛ كل ما تفعله هو أنها تلكم الحالة الثقافية على وجهها بالضربة القاضية، وتضع الداعي والمدعوين أمام مواجهةِ ما سيقولونه أو يفعلونه في ظروف أكثر ما يقال عنها؛ أنها تمحق الحالة الثقافية، وتجعلها ترَفاً غير موجود.

ربما يخطر في بال أحدهم أن يقول؛ إن بعض الأنشطة المدعومة من قِبل المؤسسات الرسمية، لا زالت رخيصة ومجانية، ولكن ما لا يجب تجاهله أن المنتج الثقافي أحياناً في الخاص والعام بحدّ ذاته؛ يمكن القول عنه أيضاً أنه رخيص ومجاني ولا يستحق الاحتفاء به، بل كل ما يجب أن يُقال: أنه يحتاج لوأده ورميه في خزانة الإهمال، ووسط هذا وذاك، ووسط دوّامة العاصفة؛ قلّة من يتمسّكون بجذور مبادئهم، وقلّة من يُقدّمون كلمة تستحق الوقوف معها، والأقل منهم بالطبع هم من يتلقفونها، وعلى هذا وذاك، تبقى تحصيل نسخة مجانية ورميها في درج النسيان؛ هي الحالة الثقافية السائدة في بلاد تستيقظ كل صباح لتقول لك، أنت ابن العشرة آلاف سنة من الحضارة.