السوريون وهزيمة “البوتينية”

ليس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ وحده في مأزق كبير، بسبب ما ستؤول إليه “الهزيمة العسكرية في أوكرانيا”، من نتائج وارتدادات. بل كامل “البوتينية” -إن جاز التعبير- صارت تعيش محنتها الأصعب بسبب ذلك.

البوتينية؛ باعتبارها إيديولوجيا، ومنهجية، وسلوك في الفعل السياسي، والعسكري، والاقتصادي، والثقافي، داخل أي من البلدان، وعلى مستوى العالم، تلك التي صارت تعرِض نفسها منذ عقدٍ ونصف على الأقل، كمناهض وبديل عن سياقات “ثورات الدمقرطة”؛ التي بدأت تجتاح مختلف بلدان العالم منذ أواسط التسعينات.

عاشت مختلف بلدان العالم؛ انقسامات حادّة على دفتي ما تعرضه وتسلكه هذه البوتينية. فحتى البلدان الأوروبية، الأكثر أصالة ورسوخاً في ممارسة وتبنّي القيم الديمقراطية، صارت تلاقي في دواخلها من ينزعون للتعبير، والإعجاب، والتصرُّف بشكلٍ “بوتيني”، هؤلاء الذين يجمعون ذواتهم نزعةً لتقديس فائض القوة، ومركزية الزعيم، وتبجيل الانضباط والعسكرة، في ظلال عبادة الاستقرار كقيمة مطلقة، أياً كانت فداحة شروطه، مع ما يلزمها من قومية محلية ونبذ للآخَر المُختلِف في هوياته الدينية، والعرقية، والثقافية، وشعور دائم بثقل مستلزمات الديمقراطية، والمساواة الجندرية، ومنظومة حقوق الإنسان والحريات العامة.

ضمن هذه التركيبة التي “اجتاحت” العالم، كانت سوريا؛ منذ عشرة أعوامٍ على الأقل، وما تزال، واحدة من أكثر جغرافيات العالم “بوتينية”.

حدث ذلك لأسباب مُركّبة، على رأسها؛ طبيعة النظام الحاكم للبلاد، الذي كان مُستعصياً على أية آلية للتطوُّر، أو التحسُّن من داخل نفسه، مقابل “استحالة” تغييره من قِبل المجتمع السوري، بنفس الأدوات التي استعملتها المجتمعات في تجارب البلدان الأُخرى، هذا الاستعصاء، كان الأرضية الخصبة لبزوغ البوتينية بأوضح صورها.

إلى جانب ذلك، فإن الروح السياسية العمومية؛ الأكثر رواجاً ضمن سوريا، ومن مختلف الأحزاب والتطلُّعات السياسية، البعثية واليسارية، والقومية السورية، والإسلامية الإخوانية، كانت على الدوام تحمل الكثير من بذور وبصمة البوتينية هذه، وحسب مختلف تلك السِّمات المذكورة سابقاً.

الأمر الأخير؛ كان يتعلّق بالموقع الجيوسياسي لسوريا، ككيان يتوسّط بُلداناً إمبراطورية أكبر منه حجماً، وذات ذاكرة تاريخية صراعية مديدة، وما شكّلته المسألة الفلسطينية/الإسرائيلية؛ من تعقيد إضافي، الأمر الذي خلق من سوريا ككيان ولاعب خارجي، على حساب أي داخل، وهو ما يُناسب البوتينية تماماً.

كل ذلك، كان الأرضية الصلبة لحضور البوتينية الدائم في سوريا، لكن بجرعة مُكثّفة خلال السنوات العشر الماضية، لأنها السنوات التي سمحت بتفجُّر كل ذلك. حضور الأشياء “عارية” وواضحة، ومعفية، من آداب الكلام الإيديولوجي المُنمَّق، فصارت سوريا؛ الحَلَبة الأكثر تعبيراً؛ عن “قوة” وجموح هذه “البوتينية”.

أوكرانيا اليوم، وما يلاقيه جيش بوتين؛ من هزيمة واضحة، إنما تعني فعلياً؛ تراجعاً سياسياً، وقيمياً، وإيديولوجياً واضحاً؛ لكل ما تعنيه البوتينية. الأمر يشبه ما عاشته التجربة الناصرية عقب هزيمة العام 1967، التي كانت إيذاناً بتفكُّكها، وتحوُّلها إلى مجرد إرثٍ مرير، وما فعله انهيار الاتحاد السوفياتي بأنصاره ومعتقداته على مستوى العالم، وهكذا.

في سوريا، يبدو بوضوح؛ أن النظام الحاكم سيكون أكثر الأطراف السورية تأثُّراً بانكسار البوتينية هذه. فهذا النظام فعلياً؛ هو جزء عضوي من “شبكة الفاعلية” البوتينية؛ على مستوى العالم، وبالذّات في منطقة شديدة الحساسية مثل الشرق الأوسط، فالنظام السوري في علاقته مع البوتينية راهناً، لا يُشبه ما كان عليه النظام السوري مع الاتحاد السوفياتي السابق؛ في العقود الماضية، حيث كانت تلك العلاقة قائمة على توليفة من التوافق الإيديولوجي، والشراكة العسكرية، والتعاون الإقليمي، والاستضافات العالمية، وهي أشياء لم يعدّ النظام السوري الراهن يملُكها قطّ، فكل استقراره، وحتى وجوده، مرتبط بما تُوفّره البوتينية من مظلة استقرار.

لكن ليس صحيحاً؛ أن النظام السوري وحده يعيش هذا المأزق، فالغالب الأعمّ من قِوى المعارضة السورية، بالذات منها الإسلامية المُتطرِّفة، والطائفية، والمُسلّحة، والأكثر ارتباطاً بتركيا، تلك التي لم تَعُد ترى في المسألة السورية إلا مجرد حرب مفتوحة على السلطة، والهيمنة، والثروة؛ بدون أية قيمة سياسية مُضافة، مثل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمساواة الجندرية، واللامركزية، والإقرار بالحقوق المتساوية للجماعات، إنما ترى في البوتينية؛ أداتها الأكثر حيوية في خلق توافقات وتوازنات داخل سوريا، بالذّات عبر الشراكة التي خلقها أردوغان؛ مع نظيره بوتين، فيما خصّ سوريا منذ سنوات.

في هذا السّياق، فإن هزيمة بوتين بالنسبة لهؤلاء السورين الأخيرين؛ ليست مجرد تفكيك لتلك الشراكة وأدوات التعاون الأردوغانية/البوتينية؛ بل هي أيضاً نوع من انكسار عقائدهم، وخطاباتهم، وأشكال وعيهم؛ التي كانت قائمة على الصرح البوتينيّ؛ الذي هو المضادّ الواضح لكل قيم الدمقرطة. وبذا؛ فإن الهزيمة البوتينية، قد تكون أداة لتفكُّك أشكال السيطرة، والمخادعة؛ التي كانوا يستعملونها مع مجتمعاتهم الداخلية.

أخيراً، فإن هزيمة البوتينية؛ في أوكرانيا؛ ستعني شيئاً واضحاً للفاعلين السوريين، هو أن شرط الديمومة لا يتعلّق بقدرة العسكر، والعنف؛ على الهيمنة وخلق وقائع جديدة على الأرض، وأن الاستقرار المديد يتطلّب ما هو أبعد من ذلك بكثير، تبدأ بالسياسة، واحترام الحريّات العامة، والحق المتساوي في التمثيل والتعبير، ولا تنتهي بالاقتصاد والتوافقات المجتمعية، والتحوُّل إلى جزء من فضاء العالم، لغته واهتماماته ونوعية قيمه الإنسانية العليا.