دمشق ـ نورث برس
الحلم الرئيسي عند كل العائلات السورية، هو وصول أبنائها إلى مجموع يؤهّلهم لدراسة الطب البشري، ولتحقيق ذلك يدفعون مبالغ أصبحت تصل للملايين، بغضّ النظر عن وضعهم المادي.
وقد عبر عن ذلك، عدد من ذوي الطلاب، لنورث برس، متهكّمين بأن “كل خطط الناس تتمحور حول كيفية الوصول إلى كلية الطب”.
فمن يدخل “التحضيرية”؛ يعمل للوصول إلى دراسة الطب، وإذا لم يتمكّن من دخول التحضيرية؛ يفكّر بالتسجيل في العلوم الصحية ويسعى للتفوّق، ومن ثم يُكمل طريقه إلى الطب البشري في السنة ثالثة.
أو يدخل معهد طبي، أو صحي، ويسعى ليكون من الأوائل لدخول الطب البشري، أو كلية التمريض، ومن ثمّ يُكمل طب بشري، سنة ثالثة.
“كرّست حياتي“
عائشة حسن، هي أم لبنتين، تُؤكّد أنها كرّست كل حياتها، لوصول ابنتيها إلى مقعد في الطب البشري مهما كانت الظروف والتكاليف.
وأشارت، إلى أن رغبتها بذلك؛ لأسباب كثيرة منها، تعويض “حلمها الضائع” هي وزوجها في الحصول على شهادات عليا، ولتحقيق “حضور اجتماعي مميّز” ضمن العائلة والمنطقة؛ من خلال دراسة ابنتيها للطب؛ كأعلى تحصيل علمي في سوريا.
في حين تُضيف أم لطالب طب في السنة الثانية، رفضت الكشف عن اسمها، أنها عملت الكثير ليصل ابنها الوحيد إلى تحقيق حلمه بدراسة الطب.
وتكلّفت الأم، مبالغ مالية “كبيرة” لهذه الغاية، وهي مضطّرة لذلك؛ لأنها رغبة ابنها، وقد تحققت، وفرحتها بذلك لا تُقدّر.
حلم ضائع وطريق طويل
تُضيف المهندسة، حلا محمد، العاملة في القطاع العام، إن عدم دراستها للطب البشري جعل من هذا الفرع؛ حلمها الذي لم يتحقق.
ودفعها ذلك لبذل قُصارى جهدها لتحقيق هذا الحلم مع أبنائها، وأنّ خيبتها كانت “كبيرة جداً”، عندما لم يتمكن أبناؤها من تحقيق هذا الحلم وتكرار المشهد ذاته معهم.
وترى “محمد”، أن الأفرع الوحيدة التي لها وزن ومستقبل مختلف في سوريا، هي الطب والصيدلة وطب الأسنان، وباستثناء ذلك يعمل الجميع كموظفين حتى المهندسين الذين حصّلوا علامات جيدة لكنها لم تُؤهّلهم لدراسة الطب.
في حين بيّنت، نجوى الشيخ، أنها لا تُفضل دراسة الطب للفتيات نهائياً، ولا ترغب بدراسة ابنتيها للطب البشري، لأن سنوات دراسته تأخُذ وقتاً كبيراً من العمر.
وتُفضّل أن تعيش ابنتيها حياتهما الشخصية وتتمتعا فيها؛ “خيراً من الدخول في فرع يحتاج الكثير من التعب والدراسة”.
وتذكر “الشيخ”، أسباباً أخرى، وهي أن المرضى يُفضِّلون الأطباء أكثر من الطبيبات، ولكي تُثبت الطبيبة ذاتها تحتاج إلى عمر.
باعوا أملاكهم
في حين بيّنت إعلامية؛ في الشؤون المحلية؛ بوسيلة إعلام محلية، فضلت عدم ذكر اسمها، لنورث برس، وهي أيضاً أم لطالبة في الثانوية، أن “معظم الأهالي يسعون لدخول أبنائهم الكليات الطبية، سواء أكانت طب بشري، صيدلة، أو طب أسنان”.
وتقول، إن الكثير ممن تعرفهم
“باعوا أراضيهم ومنازلهم وسكنوا بالإيجار ليُدرِّسوا أولادهم الطب؛ رغم أن الكثير من الأبناء لا يرغبون بهذا الفرع”.
وفي رأيها، أن أسباب ذلك، هي أن الجميع يسعى لوصول أولاده للعمل الحرّ، أي الهروب من الوظيفة التي باتت “لا تكفي لشراء الخبز”.
وتُضيف: “بات التوجُّه مادياً بحتاً، بالإضافة إلى رغبة الكثيرين في السفر، حيث يرون أن الاختصاصات الطبية مطلوبة ودخلها كبير جداً”.
وهناك قسم آخر يسعى لتدريس أولاده الطب؛ “للتباهي والاستعراض”، والابتعاد كُلّياً عن الهندسات.
وحُجتهم المنطقية؛ أنهم يُدرّسون أبنائهم خمس سنوات وفي النهاية “يتقاضون راتباً لا يزيد عن ١٢٠ ألف ليرة سورية”.
وأشارت الإعلامية، إلى أن الجامعات الخاصة؛ “سهّلت هذا الأمر أمام الكثيرين، حيث أصبحنا نرى مئات الخريجين من الكليات الطبية لا يجدون عملاً، ولا يستطيعون فتح عيادة أسنان أو صيدلية”.
في حين ميَّز إيهاب عبد الله، العامل في التجارة، في أسباب التوجُّه نحو الطب البشري بين الزمن السابق والحالي.
وأشار، إلى أنه “في السابق كانت الناس تُفضّله؛ لأنه يُحقّق منزلة اجتماعية مرموقة من جهة، ولتحقيق دخل مادي مرتفع من جهة ثانية”.
أما الآن؛ “فقد اختلفت الأسباب، حيث أن الناس تُفضّله؛ لأنه شهادة مطلوبة للسفر خارج جحيم البلاد”، بحسب “عبدالله”.
وأضافت موجِّهة تربوية في وزارة التربية، “إضافة للأسباب السابق ذكرها، فالطب يحقق شعور الأهل بالأمان؛ لوجود طبيب في الأسرة، وعدم الحاجة إلى التداوي عند الأطباء الغرباء، إضافة إلى إمكانية تبوُّء مناصب عليا عند دراسة الطب”.
تسهيلات منتقدة
وقد أثار القرار؛ الذي صدر هذا العام، ورفع نسبة من يستطيعون دخول كلية الطب من 3 إلى 10%، من دارسي الفروع المتصلة في الكليات الأخرى؛ الكثير من الجدل.
فهناك من يرى، أن هذا “سيُخفِّض من سوية هذه المهنة”، وقد عبّر أحد طلاب الطب عن هذا الأمر؛ بلهجته المحلية: “بعد مرور 5 سنوات على آلية القبول الجديدة؛ تصبح الناس تقول: يا حرام لم ينل سوى طب بشري، أو ما طلعلي شي فسجلت طب بشري”، في إشارة إلى تدنّي مستوى القبول في الكلية التي تتمتع بسطوة وحضور اجتماعي كبير.
وقال آخر: “طلعت كل الطرق تؤدّي إلى الطب البشري، وليس إلى روما فقط”.
وكان وزير التربية السوري، دارم الطبّاع، قال في آخر حواراته، إن دراسة الطالب للمعاهد والعمل في حرفة؛ “أفضل من دراسة الطب والذهاب لعلاج الألمان”.
وقد أثار هذا الكلام موجة من التعليق والسخرية، خاصة أنه يصدر عن وزير تربية.
أقساط مرتفعة وامتيازات خاصة
وقد رفعت وزارة التعليم، في سوريا، أسعار دراسة الطب في الجامعات الخاصة والتعليم الموازي؛ إلى أرقام وصفها الغالبية بـ”الخيالية”، حيث ارتفع التسجيل في الطبّ الموازي من 200 ألف، إلى 600 ألف، لهذا العام.
كما حدّدت وزارة التعليم، رسوم الدراسة في الجامعات الخاصة، للفروع التحضيرية بمبالغ كبيرة، جعلتها “حِكراً” على شريحة محدّدة من السُكان.
وبلغت رسوم الطب البشري، نحو 73 مليون ليرة سورية، وأكثر من 44 مليون لطب الأسنان، و38.5 مليون للصيدلة.
وقال مدرس لمادة الرياضيات؛ في تعليقه على هذه الأرقام، “لماذا لا يُسجّل الطلاب أفرعاً تناسب مجموعهم، وما الداعي لدخول جامعات خاصة؟”.
وقال آخر: “هل يحقّ لطلاب يُخطِئون بجدول الضرب، أو لديهم أخطاء إملائية؛ أن يدرسوا الطب؛ لأن أهلهم أغنياء ويستطيعون دفع المال المطلوب؟”.
وتساءل: “لماذا لا يكون المعيار المُحدّد هو العلامات فقط؟”.
وكانت وزارة التعليم، قد حدّدت علامات متدنيّة؛ لكل من أبناء الهيئة التدريسية، لم تتجاوز 180 علامة لدخول الطب، و156 علامة لدراسة الطب البشري؛ لأبناء الشهداء.
وكل هذا يصِفه البعض؛ بأنه “يُؤثِّر على سويةِ مهنة، يُفترض أن تتمتع بمواصفات خاصة لأنها تعالج الإنسان، وهو أهم المخلوقات على الأرض، وتُبيّن أن من دخل الطب؛ عن طريق منحه علامات لا يستحِقُّها، هو أشبه بمن حصل في مرحلة الثمانينات؛ عندما كان يُمنح 20 علامة لمن خضع لدورة مظليّة، و60 علامة لدورة ألماظة خليل، التي تُوفيت أثناء هبوطها بالمظلّة”.