شرق الفرات قنبلة طهران الموقوتة في وجه التَّحالف

من غير الصواب اعتبار التحرُّشات الإيرانية؛ عبر قصف معمل كونيكو، أو حقل العمر، على أنها أمور روتينية اعتادت عليها المنطقة, واعتادت عليها قوات التَّحالف الدولي, وأن الشرق السوري باقٍ ضمن توازنات القوى، وضمن قواعد الاشتباك المعمول بها, وأن مناطق النفوذ بالداخل ما زالت محترمة من قبل جميع الأطراف المتداخلة.

نقول ليس صواباً؛ لأن المعلومات المتواترة عن التحرُّكات الإيرانية، إن كان من حيث إعادة التموضع والانتشار, أو من حيث تزايد شحنات الأسلحة القادمة مؤخراً لميليشياتها في الميادين، والبوكمال، ودير الزور، ومطارها العسكري, أو من حيث التدريبات البرية التي قام بها الحرس الثوري الإيراني، ولواءي زينبيون وفاطميون، وكتائب أبو الفضل عباس، وحزب الله العراقي؛ في بادية الميادين, وفيها اختُبرت راجمات صواريخ غراد إيرانية، وصواريخ متوسطة المدى جديدة؛ تم تصنيعها في سوريا؛ على يد خبراء الحرس الثوري الإيراني؛ الذي تشارك وضع الخطط مع حجي يونس؛ المسؤول الأول عن ميليشيات إيران في سوريا؛ مع حجي عسكر؛ مسؤول الميليشيات في دير الزور وأريافها, ومعلومات عن نقل الحرس الثوري الإيراني لطائرات مُسيّرة انتحارية، وتزويدها لبعض ميليشياتهم شرقي سوريا, وكل التحرُّكات العسكرية التي تعمل عليها ميليشيات إيران، ليست ناجمة عن فراغ بل تأتي في إطار خطة عمل مُمنهجة؛ تستند لغطاء سياسي صدر عن قمة طهران، عندما طالبت روسيا وتركيا وإيران؛ بخروج القوات الأميركية من سوريا، كونها عثرة في طريق تحقيق السلام السوري “الأستاني”؛ الذي تنشده تلك الدول, وتستند خطة عمل إيران أيضاً؛ لغطاء عسكري صدر عن قاعدة حميميم الروسية، عندما اجتمع فيها قائد قاعدة حميميم إلكسندر تشايكو, ونائب وزير الدفاع الإيراني، مهدي فرحي, ونائب رئيس الأركان السوري، اللواء مفيد حسن, وهناك اتخذ قرار بتشكيل قوات “هيئة الإستعداد القتالي”، ومقر قيادتها الرئيسي في المتحف الوطني؛ في دير الزور, ومهمتها مهاجمة قوات التحالف الدولي, وتصعيب وجود الأميركان في سوريا, واتّباع السيناريو العراقي من حيث الدخول بحرب استنزاف مع الأميركان تجبرهم بنهاية المطاف على الخروج من سوريا، وترك الساحة لأقطاب “أستانا”, ثم لاحقاً تخرج تركيا أيضاً؛ باعتبارها وفق المفهوم الروسي الإيراني؛ لا تحمل شرعية الوجود في سوريا, وقد تُعطى لها مكأفأة نهاية خدمة؛ من خلال تحسين بنود اتفاقية “أضنة” الموقّعة عام 1998، والمعدّلة عام 2010, بحيث يزداد عمق الجغرافيا التي يحق لتركيا اختراقها ضمن الأراضي السورية؛ دون الحاجة لاستئذان حكومة نظام دمشق.

لكن حسابات السوق لم تُطابق الصندوق, فـالردّ الأميركي، مع التحالف الدولي؛ عبر غرفة عمليات “العزم الصلب”، على تحرشات ميليشيات إيران، في حقل العمر (المنطقة الخضراء)، أو معمل كونيكو، أو في قاعدة التنف, كان غير متوقع؛ عبر قصف مُركّز من طائرات أميركية وفرنسية وبريطانية, دمّر معسكر الصاعقة, ومعظم مستودعات عيّاش, والكثير من مواقع ومراكز القيادة؛ التي أنشأتها ميليشيات إيران، على الضفة الغربية لنهر الفرات, وفي حويجة صكر, إضافة لقصف مجموعة “شيخون”؛ الخاصة بإطلاق الصواريخ على معسكرات التَّحالف, والردّ الموجع، وعبر زخم عسكري قلّ استخدامه؛ استند لتعليمات مباشرة من الرئيس الأميركي جو بايدن, أراد إيصال عدة رسائل بوقت واحد:

الرسالة الأولى: أن أيّ تحرش إيراني جديد؛ يعني تصعيد عسكري يستوجب على قوات التّحالف التعامل معه، بكل جديّة وبكل قسوة, والضربات الأخيرة على مواقع ميليشيات إيران، ليست نهاية المطاف بل بدايته.

الرسالة الثانية، كانت سياسية, وفيها نوّهت الخارجية الأميركية والبيت الأبيض، أن إيران تُخطئ إن أرادت ربط ملفات المنطقة، بما يجري من مفاوضات في جنيف حول النووي الإيراني, والخطأ الأكبر؛ إن ظنّت أن تلك التحرُّشات؛ يمكن أن تؤثّر على قرار التوقيع من عدمه في فيينا, أو يمكن أن تُجبر الإدارة الأميركية على القبول بشروط إيران المرفوضة.

التحالف الدولي، لم يكتفِ بالقصف على مواقع الميليشيات الإيرانية, بل أقدم على عدّة خطوات، غاية بالأهمية؛ تجلّت بزيادة أعداد الدورات العسكرية لعناصر من قوات سوريا الديمقراطية (قسد)؛ تجري في المنطقة الخضراء “حقل العمر”, لتدريبها على أعمال مشتركة مع التَّحالف, وأعمال الإنزالات الجوية, والعمل خلف خطوط العدو, وعمليات تفكيك الألغام, وقتال الشوارع, والقتال بالتعاون مع الحوّامات, إضافة لأعمال القنص, ثم انتقل التَّحالف لتشكيل قوات خاصة؛ مهمتها كشف الخلايا النائمة ليس فقط لتنظيم “داعش”، بل لمواجهة خلايا سريّة؛ باتت تعمل بالأجندة الإيرانية؛ عبر بعض العشائر، وزرعتهم إيران في عدّة مواقع من الجزيرة السورية. التطوُّر الأبرز بقرارات التَّحالف؛ ما ظهر مُؤخَّراً من تدريبات عسكرية مشتركة بين التحالف الدولي، وقوات سوريا الديمقراطية؛ جرت في محافظة الحسكة، على مثلث الحدود السورية العراقية التركية, وفيها تمّت تدريبات بالأسلحة الحيّة على تكتيك قتال رفيع المستوى؛ باستخدام أسلحة ثقيلة، وبالتعاون مع الحوّامات والطيران المقاتل، وتلك تدريبات متقدمة وتحصل للمرة الأولى.

رفع إيران لمنسوب التحرُّشات بقوات التَّحالف, وتسخين الجبهات, ليس غريباً على قيادة الحرس الثوري الإيراني، وفيلق القدس، واسماعيل قاآني, فتلك القيادات دائماً ما تمارس تكتيك وسياسة الهروب للأمام, أو اللعب على حافة الهاوية, باعتبار أن إيران لا تُجري حساباتها وفق مفهوم عدد الجنود القتلى في صفوفها, أو أعداد الجرحى, أو كمية المنشآت والسلاح المُدمر لها, بل تضع هدف الإستمرار بمشروعها وخططها كأولوية مهما كلفها من خسائر, لأن قادة ولاية الفقيه؛ يدركون تماماً أن مشروعهم الفارسي الممتدّ من طهران لبغداد، لدمشق، إلى بيروت، والمتوسط, تُشكّل فيه سوريا؛ درة تاج المشروع الفارسي، ويجب الحفاظ عليها فهي حلقة الوصل, خاصة بعد التطوّرات السياسية التي تحصل في العراق ولبنان, وأن تواجدها في عواصم عربية أربع؛ يُشكّل خط الدفاع الأول عن ديمومة ولاية الفقيه, وأن إنكفاء المشروع الفارسي؛ لداخل حدود إيران، يعني نهايته ويعني انتهاء حكم ولاية الفقيه, وبالتالي وأمام تلك الأهداف ما فوق استراتيجية؛ لا مشكلة للدولة الإيرانية العميقة إن تدمّرت بغداد، وقُتل نصف حشدها الشعبي, ولا مشكلة لإيران؛ إن دُمِرت اليمن ومات كل الحوثيين, ولا مشكلة لولاية الفقيه؛ إن أصبح لبنان بلداً منكوباً، وقُتل كل شيعة الضاحية الجنوبية, ولا مشكلة بتاتاً إن قُتلت ميليشياتها في سوريا، مع كل العلويين, فالمشروع الإيراني سيبقى يُقاتل حتى آخر شيعي؛ غير إيراني في العالم.

تصعيد إيران في شرقي الفرات، وتسخين الجبهات، يتمّ في وقتٍ تُصعّد فيه إسرائيل من هجماتها على فائض القوة والأسلحة النوعية؛ التي تستقدمها إيران إلى سوريا، عبر المنافذ البحرية والبرية والجوية, أو عبر ما يصنعه الحرس الثوري، في مراكز البحث العلمي ومراكز التصنيع العسكري السورية؛ التي سيطرت عليها إيران, ولأجل ذلك؛ أخرجت إسرائيل مطار دمشق الدولي عن الخدمة, وألحقت به مطار حلب, وقد يلحق بهما المطار العسكري في دير الزور، ومطارات أخرى, ولأجل ذلك؛ دمّرت إسرائيل عشرات المستودعات الإيرانية في مناطق الكسوة، ومحيط السيدة زينب، ومحيط مطار المزة العسكري، ومصياف, ودمّرت عشرات الشاحنات؛ التي كانت تنقل الأسلحة إلى لبنان، أو إلى مستودعاتها في سوريا, بعد أن أخلت موسكو بكل وعودها لإسرائيل، وللأميركان، وللأردن، والعرب, بأن وجودها في سوريا؛ هو لقتال الإرهاب، وتحجيم الدور الإيراني في قتال الإرهاب. روسيا لم تقتل إلا المدنيين والجيش الحر, وبالموضوع الإيراني؛ روسيا من تحميها وتمنحها أسباب البقاء والتمدُّد بعيداً عن كل وعودها.

التصعيد الإيراني في شرقي الفرات، الذي ترافق مع تحرُّكات لافتة لجيش الأسد، الذي انتشر وأنشأ نقطة قتالية في قرية الجلبية، على بعد أقل من 3كم، من القاعدة الأميركية، في معمل الإسمنت الفرنسي “لافارج”, برسالة واضحة من نظام دمشق، تُدلّل على عمق التنسيق مع تحرُّكات ميليشيات إيران, استوجب خطة أميركية جديدة, ورفع حالة تأهُّب قوات التَّحالف الدولي، وقوات سوريا الديمقراطية, واتباع تكتيك أميركي جديد؛ سيكون مؤلماً للإيرانيين في سوريا, ونقل إيران بعضاً من طيرانها المُسيّر وصواريخها إلى منطقة البقاع داخل الأراضي اللبنانية؛ قد يجعل من لبنان ساحة لهجمات الطيران الإسرائيلي كما حلب ودمشق ومصياف.

الواضح أن هناك قراءة أميركية إسرائيلية جديدة؛ حيال ميليشيات إيران في سوريا, وأن طرق التعاطي السابقة معها كانت خاطئة, وأن سياسة التغاضي عن الوجود الإيراني مقابل حماية نظام الأسد؛ كان خدعة إيرانية انطلت على البعض, وأن التّموضُع الإستراتيجي الإيراني في سوريا، يجب اجتثاثه؛ لأنه كالسرطان وسيشمل كامل المنطقة, لكن ما لم يصل بعد لواشنطن وتل أبيب أن كل ما يحصل في سوريا، يتم بموافقة مطلقة وشراكة مع نظام الأسد, المثل الشعبي يقول: اللي بجرب المجرب بكون عقلو مخرب, والعقل الأميركي يجب أن يكون غير ذلك, وخطأ فادح أن تُكرر الولايات المتحدة الأميركية، وتل أبيب؛ خطأ بعض الأنظمة العربية؛ التي اعتقدت للحظة أن فتح نوافذها مع دمشق يمكن أن يبعدها عن طهران, ويمكن أن يؤدي لفك ارتباط بشار الأسد، بمشروع ولاية الفقيه, ومعظم تلك الدول وصلت لقناعة باستحالة حصول ذلك, فهل تحتاج واشنطن لإعادة التجربة؟؟

أمام تمرّد إيران وزعرنات ميليشياتها, هل تُصاغ عبر التَّحالف الدولي؛ خطط عسكرية متكاملة تجتث الوجود الإيراني في أهم مناطق انتشاره على البواية العراقية السورية, أم تُترك إيران في سوريا؛ حتى يستفحل أمرها كما تُركت في العراق، وكان الثمن مغادرة الأميركان وتقديم العراق، وقد تُقدم سوريا معها على طبق من فضة لولاية الفقيه؟؟.