أحمد السح
مات ميخائيل غورباتشوف، عن عمر يناهز واحداً وتسعين عاماً، والتقطت كاميرات الإعلام صورة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في لحظة وداعه بعينين دامعتين، وأسىً كان واضحاً على الرجل الذي أنهى الشيوعية، وأنهى معها العالم ثنائي القطب، ليدخلنا في عالم أحادي القطب، يجهد رئيس روسيا الاتحادية إلى إعادة العالم إلى شكلٍ متعدد الأقطاب كما يقول.
لم يكن موت غورباتشوف، ذو صدى إعلامي كبير، فأعداؤه أكثر من أحبائه، والمرحلة التي يعيشها العالم اليوم لن تتوقع منها الأسى على رجل بعد هذا العمر، بينما يغوص العالم في مآسيه المتعددة، التي لا يعرف الفرد فيها طريق خلاصه أو نجاته.
رحلة ثقافيَّة وتأثر سوريّ:
ولكن الأبرز في مرحلة غورباتشوف، وطروحاته حول البريسترويكا، أو إعادة الهيكلة، أنه أنهى الدور الثقافي للمدّ الشيوعي الذي اجتاح العالم، واجتاح أكثرها الدول التي كانت تنفض عنها أعلام انتداب الاستعمار الغربي، وتتخذ قراراتها بالاستقلال بعد أن عاشت عقوداً تحت استغلالٍ؛ كانت الشيوعية أبرز محاربيه، وفي سورية شأنها شأن الدول التي تبنّت المد الاشتراكي، وليس الشيوعي بحرفيته، تأثر المثقفون والشعراء والكتاب والنخب بالأفكار اليسارية، فمن منا خلت مكتبة أبيه؛ إن كان من أصحاب الكتب من كتاب رأس المال لكارل ماركس، أو رواية العقب الحديدية، أو الجريمة والعقاب، أو الإخوة كارمازوف، أو آنا كارنينا، أو غيرها من الكتب التي خاطبت الوعي وتُرجمت إلى مختلف لغات العالم وكان من بينها اللغة العربية، وكان الروس أو الشيوعيون؛ لنكون أكثر دقة حريصين على نشر ثقافتهم في مواجهة القوة الناعمة التي انتهجتها أميركا كرأس حربة للغرب، في نشر الثقافة والتوجّه إلى عقول الشعوب، وتقديم نفسها كأيقونة للتنوّع، بينما عمل الروس إلى تقديم أدبٍ أكثر التصاقاً بالإنسان وآلامه وعذاباته خاصة أن الشعوب المستغَلّة كانت تشعر بمظلومية شديدة من قِبل الاستعمار، وهو ما سعت إلى إنهائه عبر التطلُّع إلى حريةٍ وعدالةٍ اجتماعية ومساواة في توزيع الثروات.
إن الانكماش السياسي والانفتاح الذي قدمه غورباتشوف لمرحلته، لم يرافقه، انفتاح ثقافي على الإطلاق، بل على العكس يعتبر عهده عهد الانكماش الثقافي، فالسوفييت حينها توقفوا عن كل الأنشطة التي كانوا يظهرون بها، فتوقّفت الترجمة، وتوقف توزيع أفلام السينما، وتوقف الدعم للرفاق الأمميين الطليعيين عبر العالم، فكل ما طرحه غورباتشوف كان البروستريكا، والشفافية، ولكنه لم يخلص الأمة الأممية من ثوبها الثقافي القديم، فظهرت عجوزاً يريد التصابي لا أكثر.. وهذا ما يذكرنا بعكس الحالة التي كانت عليها الشيوعية التي سبّبت رعباً لأعدائها في العالم، حين كانت تقدم الواقعية الأدبية والالتزام على أيدي أهم الكتّاب الذين تشوق العالم كله للترجمة لهم، مَن مثلاً لم يعتبر أم مكسيم غوركي هي أمه، وأن عمله واستغلاله هو شخصيته ذاتها، وقتها كانت الأفكار الثقافية التي تقدمها الشيوعية ملهمةً للأفكار، ومنبراً يساعد الجميع على قول ما يريدون قوله؛ عبر أدب متماسك رصين شكَّل نواة المسرح والسينما في دول العالم الثالث، يمكن ملاحظة أن السينمائيين السوريين مثلاً يُقدِّسون ديستويفسكي؛ لسبب عميق هو أنه روائي ملهم لهم، كونه يرسم بكلمته تفاصيل بصرية اختصرت عليهم الكثير من الدراسات للسيناريو، والديكوباج، وغيرها من أدوات العين السينمائية؛ التي شغفوا لتقديم رؤيتهم السينمائية في أوطانهم أيضاً، وخاصة ممن بُعثوا للدراسة في الاتحاد السوفيتي السابق، الذين عادوا مدججين بحب هذه الثقافة حتى ولو لم يتأدلجوا شيوعياً، غلا أنهم تتلمذوا على أيدي شيوعيين، فصار التأثُّر عملية فوق أيديولوجية.
يعد المدّ الثقافي سراً ومفتاحاً تمتلكه الدول الكبرى؛ التي تموّل بشكل واضح مشاريعها الفكرية، وتسعى إلى جذب الشعوب إليها من خلال تقديم الأحسن، والأكثر جذباً لشعوب عطشى اقتصادياً وليس لديها بوصلة واضحة لما تهدف إليه أو تريده، وهذا ما حدث في سورية في الستينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وظلّ التأثير واضحاً، ووضعت له قوانينه من خلال التبادل الثقافي مع الجامعات السورية في مختلف ميادين العلوم والتجارب، ولكن هذا انكفأ تدريجياً مع بدء مراحل الانهيارات السوفيتية إلى أن مات كلياً في فترة حكم غورباتشوف، واستمر هذا الموات في عهد خلفه رئيس روسيا الاتحادية بوريس يلتسن، الذي عاشت بلاده مرحلة العيش على الماضي ولم تكن قادرة على التأثير، وهو ما شكّل صفعة عميقة لكل الرفاق الأمميين وجرحاً ينزُّ في قلوب من تبقى منهم حتى هذا اليوم.
يمكن اليوم إذا وُجِدَ مُموّل لمشروع يحصي النهج الاشتراكي في الشعر الحديث للمنطقة العربية عموماً، وسورية خصوصاً، لاحتاج الأمر دراسة لا تقل عن عشر سنوات لنرى كيف أن الفكر الاشتراكي كان نهجاً للشعراء الكبار منهم والصغار، وراكبي الموجة على سبيل المثال طبعاً، ولكنه رغم ذلك كان يعطي حركة ثقافية مستندة إلى أساس بدا متيناً في تلك الفترة هي دولة شاسعة المساحة تصول وتجول اسمها الاتحاد السوفييتي، وهل يمكن تجاهل حركة الترجمة والانبهار بالأدب الروسي دون سواه؛ الذي لا زال معظم المثقفين السوريين يستلهمون منه أفكاراً من ديستويفسكي وتشيخوف، والقائمة تطول حسب قدرة الدعم الثقافي والتأسيسي؛ التي تمّ الاشتغال عليها في كل المرحلة، ولو استطعنا إجراء دراسة مقارنة حول السّير الذاتية؛ لأبرز الكتّاب والشعراء والمثقفين السوريين؛ الذين رحلوا والذين ما زال بعضهم بيننا، لعرفنا أن معظمهم تأثر بشكل ثوري بالمدّ الشيوعي ومنهم من تأدلج بهذا الفكر، وإن انحرف بعضهم عن هذا الفكر بعد أن أجرى مراجعة ثقافية لذاته، أو يمكن القول مراجعة اقتصادية، فالثدي الشيوعي كان قد نضب، وجفّ حليبه بشكل كامل.
يعترف معظم الرفاق الأمميين اليوم، قبل غيرهم؛ أن ميخائيل غورباتشوف، عرّى الممارسات الاشتراكية، وقدمها على حقيقتها، وأنه لم يكن سوى القشة التي حفرت هوة البناء في دولة عاشت عقوداً تعتبر نفسها أنها غير آفلة أبداً، ولكن تراكم الأخطاء والسياسات أوصلته إلى بلاد مرتمية الأطراف والأفكار ولكنها بعيدة عن ذاتها، وبعيدة عن أفكار الناس التي تحتاج دوماً إلى تطور ومراجعات نقدية، ربما يكون ما فعله غورباتشوف على قسوته واحداً منها.
المُلفت اليوم أن التقارب الروسي السوري؛ لم يكن طارئاً فهو امتد قبل الشيوعية وبعدها، وإن كانت هناك تباينات واضحة، ولكن السوريون على مختلف صراعاتهم السياسية؛ رأوا في روسيا حكماً جيداً لحلّ صراعاتهم خاصة أن هناك معايير ثقافية مشتركة وأن هناك صداقات قد تكون شخصية وقد تكون مع كتب روسية أثرت في العقل الجمعي السوري، ولكن الآلة الروسية اليوم يؤخذ عليها تقصيرها، ليس في سوريا فقط؛ بل في العالم أجمع؛ عن لعب ذات الدور الذي أسّس لنهج ثقافي عالمي، ربما كان بحدّ ذاته هدفاً إبّان الشيوعية، ولكنه اليوم غير موجود، فمن منا يقرأ كتباً لكتّاب روس، ومن منا يعرف المسرح والسينما الروسية اليوم، والموسيقى، قلة قليلة جداً؛ مع أن هذا النشاط الثقافي لم يتوقف، وهو مستمر في هذه البلاد ولكنها لا تجهد في تمويل نشره وتوزيعه كما بذلت من قبل في ذلك، لذا فإن أثر غورباتشوف ما زال مستمراً حتى اليوم، فلم يتغير شكل الحكم فحسب؛ بل تغيّرت آلية التعاطي مع الشعوب الصديقة، ولم يعد ضرورياً أن تجذبها، كما كانت عليه الحالة في القرن الماضي.