مع اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، انقطعت في الآونة الأخيرة، العلاقات الوثيقة بين الرئيس الأسد، ونظيره التركي أردوغان، و بعد أكثر من عقد من الزمن، كانت هناك تصريحات متزايدة حول المصالحة؛ مصدرها أنقرة؛ وإن كانت متزامنة مع تهديدات بحملة عسكرية جديدة، لذلك يجب على الرئيس التركي أن يختار إما التطبيع أو التصعيد.
تُثير الهجمات المتزايدة الأخيرة على أهداف كردية في شمال سوريا، من قِبل تركيا، والجماعات المتمردة السورية التي تدعمها، تساؤلات حول ما إذا كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ينوي تنفيذ تهديده في أيار، 2022، لبدء عملية برية كبيرة أخرى ضد الكرد، ومن ناحية أخرى، تمّ إطلاق تصريحات استرضائية (تصالحية)، بشأن نظام الأسد مؤخّراً في تركيا، وكان هناك نقاش حول إمكانية تطبيع العلاقات بين البلدين بعد أكثر من عقد من العِداء والتنافس.
يبدو التناقض واضحاً في هاتين العمليتين، فبالنظر إلى أن النظام السوري يعارض السيطرة التركية الحالية على الأراضي السورية، ولا يرغب في رؤية هذه السيطرة تتوسّع، ومن ناحية أخرى؛ قد تكون هذه خطوة تركيّة محسوبة؛ تهدف إلى إظهار جُهداً منسقاً، متعدد الأوجه للجمهور التركي؛ لمواجهة كُلّاً من حركة المقاومة الكردية، وقضية اللاجئين السوريين في تركيا، حيث يمكن الاستفادة من مناقشة الأحداث في شمالي سوريا، وشبكة المصالح السورية والتركية؛ في تقييم السؤال، ما هو الاتجاه الذي سيسود العلاقات التركية السورية: التطبيع أم التصعيد؟
في منتصف آب / أغسطس 2022، اندلعت احتجاجات واسعة النطاق في عشرات البلدات التي تسيطر عليها المعارضة السورية، في محافظتي إدلب وحلب، شمال غربي سوريا، وظهر شعار “لن نصالح” في تلك المظاهرات، رداً على التصريح المُفاجئ لوزير الخارجية التركي، في الحادي عشر من آب/أغسطس، فقال حينها: “يجب أن نجمع المعارضة والنظام معاً، من أجل المصالحة بطريقة ما، وإلا فلن يكون هناك سلام دائم، خلاف ذلك”، كما أعلن وزير الخارجية، أنه التقى بنظيره السوري على هامش قمة حركة عدم الانحياز، في بلغراد، في أكتوبر، 2021.
غضب سكان الشمال، من البيان، وانتقدوا تركيا بشدة، مع اتهامها بالسعي إلى “التطبيع العلني” مع النظام السوري حقيقةً، وصرّح أردوغان، في التاسع عشر من آب / أغسطس، بأن “تركيا ستحتاج إلى اتخاذ خطوات أعلى مع دمشق، لإنهاء الألعاب التي تُلعب في المنطقة”.
يجب النظر إلى العِداء الذي أحدثته التصريحات التركية، في ضوء تاريخ التدخُّل التركي في سوريا، بعد أشهر قليلة من اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، عام 2011، عندما اتضح أن الرئيس السوري بشار الأسد، لم يكن ينوي تنفيذ إصلاحات مهمة، فأصبحت تركيا من أشد منتقدي نظامه، وأكثر من مرة وصفه أردوغان بـ”القاتل”، وطالبه بالاستقالة، لذلك فإن من وجهة نظر الثوار في سوريا، إن السلام بين تركيا وسوريا، هو بمثابة خيانة.
على مرّ السنين، دعمت تركيا، وساعدت العديد من منظّمات المعارضة السنيّة؛ بالتمويل والدعم المادي والأسلحة، وفي الوقت نفسه نظرت أنقرة بقلق إلى تقوية الكُرد وتوسيع الأراضي الخاضعة لسيطرتهم في شمالي سوريا، وهو ما نتج جزئياً عن حملتهم المستمرة والناجحة ضد داعش.
كانت أنقرة، غير راضية بشكل خاص عن هيمنة الفرع السوري، من حركة المقاومة الكردية في المنطقة، وخَشيت من إنشاء سيطرة كردية متواصلة على طول الحدود التركية السورية، ولإحباط هذا الوضع، شرعت تركيا إلى ثلاث عمليات عسكرية، في 2016-2019، أدت إلى سيطرة تركيا، على عدة مناطق في شمال سوريا.
في شباط 2020، في أعقاب هجمات القوات السورية على مواقع للجيش التركي، قُتل فيها 34 جندياً تركياً، باشرت أنقرة بعملية درع الربيع، في محافظة إدلب، وفي آذار/ مارس، تم توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار بين تركيا وروسيا، في إدلب، وتضمّنت الاتفاقية؛ إنشاء ممر آمن حول الطريق السريع M4، وتسيير دوريات مشتركة للقوات الروسية والتركية.
لا يزال حوالي 8000 جندي من الجيش التركي في المنطقة؛ يقدّمون الدعم العسكري واللوجستي للمنظّمات العاملة هناك، وفي مقدمتها الجيش الوطني السوري (الجيش السوري الحر سابقاً)، والتنظيم السلفي الجهادي هيئة تحرير الشام.
كما يعدّ وجود اللاجئين السوريين في تركيا، قضية مشحونة للغاية، سياسياً واقتصادياً، حيث لا تريد الغالبية العظمى من الأتراك بقاء اللاجئين السوريين في البلاد، وهذا أدى أحياناً إلى أعمال عنف مُغلّف بالعنصرية ضد اللاجئين، فيعيش اليوم 3.7 مليون لاجئ سوري، وصلوا في أعقاب الحرب الأهلية السورية إلى تركيا، ويعيش معظمهم خارج مخيّمات اللاجئين، وفي آذار/مارس 2022، وفقاً لوزير الداخلية التركي ، منحت تركيا الجنسية لـ 200 ألف سوري، دخلوا أراضيها، بينما عاد حوالي 500 ألف سوري “طواعية” إلى الأراضي التي تُسيطر عليها تركيا، في شمال سوريا، وفي أيار، 2022، أعلن أردوغان، أن الحكومة التركية بصدد صياغة خطط لإعادة توطين ما يقارب المليون لاجئ سوري في الأراضي السورية، فتركيا مهتمة للحصول على المساعدة من أطراف خارجية في تمويل بناء مُجمّعات سكنية للاجئين، مُدعيةً أن المناطق الواقعة تحت سيطرتها في شمال سوريا؛ آمنة بما يكفيهم.
على مدى السنوات القليلة الماضية ، كانت عمليات التتريك جارية في هذه المناطق، كما توسّعَ النفوذ التركي، والوجود التركي في جيب إدلب، كما استمرّت تركيا في تحسين روابط النقل إلى المعابر الحدودية بين البلدين، حيث ربطت بعض شبكات الكهرباء في شمالي سوريا بالشبكة التركية؛ كما أصبح مقدمو الخدمة الخلوية التركية يعملون في هذه المناطق؛ وأنشأت تركيا، أكثر من عشرة مكاتب بريدية تركية، في شمال سوريا ؛ تدفع للموظفين العموميين في المناطق الخاضعة لسيطرتها بالعملة التركية، فأصبحت الليرة التركية هي العملة الأساسية في شمال سوريا، كما تمّ تدريس اللغة التركية في مدارس هذه المناطق، وتمّ افتتاح مراكز ثقافية لتعليم اللغة التركية للكبار، وتمرّكز رجال الدين المُعيّنون من قبل مديرية الشؤون الدينية التركية” ديانت”، في المساجد التي افتتحتها تركيا أو جددتها.
إن النفوذ التركي في إدلب، محدود أكثر من المناطق الخاضعة للسيطرة التركية في الشمال، لكنه يتزايد هناك أيضاً، بالإضافة إلى الدعم العسكري واللوجستي للجماعات المتمردة ، فإن اختراق تركيا للحياة اليومية أصبح واضحاً، على سبيل المثال ، منذ عام 2018 ، بدأت تركيا في لعب دور أكثر بروزاً في الاقتصاد المحلي، وأصبح استخدام الليرة التركية، أمراً شائعاً. كما عرضت تركيا فرص عمل وقادت مشاريع تنموية لإعادة بناء البنية التحتية، بما في ذلك السدود والمنشآت الكهربائية والطرق، كما عملت تركيا، خلال العام الماضي، على بناء مجمّعات سكنية للنازحين الذين يعيشون في مخيّمات مؤقتة في إدلب، وتعمل المنظّمات التركية غير الحكومية أيضاً على التنمية في المحافظة، بما في ذلك مشاريع الإسكان والطاقة والثقافة والتمويل.
تطبيع العلاقات: المصالح والعَقبات
لهجة تركيا، التصالحية الأخيرة، والإشارات إلى تطبيع العلاقات مع سوريا، تُمثّل تحولاً بمقدار 180 درجة في السياسة الخارجية التركية، فقد تخدم أردوغان، بطريقتين رئيسيتين؛ أولهما: يُنظر إليها على أنها خطوات نشطة في إدارة مشكلة اللاجئين ومرحلة أولى في إعادة اللاجئين إلى سوريا، إضافة إلى ذلك، يُنظر إلى الحوار مع الأسد، على أنه ضروري في ظلّ الضغط الروسي في هذا السياق، كما عبّرت عنه اللقاءات الأخيرة بين أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في إطار مفاوضات موسّعة بين أنقرة وموسكو.
في ظلّ نمط التتريك القائم، يبدو أن احتمال انسحاب أنقرة من الأراضي السورية؛ مازال ضعيفاً، وفي ذات الوقت، فإن المعارضة الروسية والإيرانية والأمريكية، لعملية برية تركية أخرى واسعة النطاق في سوريا، فضلاً عن الصِلات المتزايدة بين الكُرد ونظام الأسد، من أجل منع مثل هذه العملية؛ تجعل من الصعب على تركيا، شنّ عملية جديدة بالمقياس الذي تُفضّله، ومن ناحية أخرى، لن تُفضي العملية العسكرية المحدودة، إلا إلى زيادة طفيفة في شعبية أردوغان، في الرأي العام التركي.
في موازاة ذلك، سعى النظام السوري، خلال العامين الماضيين؛ إلى إعادة بناء مكانته الإقليمية، والعودة إلى قلب العالم العربي. وفي هذا السياق، قامت سوريا بتطبيع علاقاتها مع الإمارات والبحرين والأردن ومصر، كما تمّ سماع الدعوات الأخيرة لإعادة قبول سوريا في جامعة الدول العربية، والتي تمّ طردها منها في وقت مبكر من الحرب الأهلية. قد يكون تطبيع العلاقات مع تركيا جزءاً من هذا الاتجاه، وليس أقل أهمية، وقد يؤدي إلى وقف أو تقليل الدّعم التركي للثوار، وبالتالي السماح للأسد، بتوجيه ضربة ساحقة للمعارضة المتبقية لنظامه، ومع ذلك، قد يُنظر إلى المصالحة بين نظام الأسد، وأنقرة، على أنها تنازل عن الأراضي السورية وإضفاء الشرعية على الوجود التركي هناك، إلا أن الأسد يرغب في استعادة السيادة على جميع الأراضي السورية؛ حيث أعلن وزير الخارجية السوري، أن سوريا لم تضع شروطاً مسبقة، لكن التطبيع مع تركيا، لن يتحقق إلا عندما تفي أنقرة بثلاثة مطالب: الانسحاب من الأراضي السورية، وضع حدّ لدعم تنظيمات المعارضة، وعدم التدخُّل في الشأن السوري الداخلي.
هناك عقبة إضافية؛ تتمثّل في الحاجة إلى صياغة “اتفاقية أضنة 2″، في عام 1998، بعد أن أخرجت سوريا؛ الزعيم الكردي المقاوم من أراضيها، وقّعت سوريا وتركيا اتفاقية أضنة؛ التي تنصّ على أن سوريا ستُعلن أن حركة المقاومة الكردية؛ منظّمة إرهابية، ولن تسمح لها بالعمل على الأراضي السورية، بل إن الملحق الرابع من الاتفاقية؛ ينصّ على أنه؛ إذا لم تفي سوريا بالتزاماتها، فقد تدخل تركيا حتى خمسة كيلومترات داخل الأراضي السورية؛ للعمل ضد نشطاء المقاومة الكردية. ومن أجل إعادة بناء الثقة بين الدولتين الآن، يجب أن يكون هناك اتفاق جديد بينهما، أو على الأقل توضيحاً بأن سوريا لا تزال ملتزمة باتفاقية أضنة، ومع ذلك، من المشكوك فيه أن يلتزم نظام الأسد بهذا الهدف وما إذا كان سيتمكن من توفير الضمانات الأمنية التي تطالب بها أنقرة.
بالنسبة إلى المتمردين السوريين في الشمال، يُعتبر تغيير أنقرة لموقفها؛ ضربة كبيرة لهم، بالنظر إلى أنهم كانوا ينظرون إلى تركيا؛ كحليف رئيسي، ومصدر للدعم العسكري واللوجستي، وعملياً، يُشكل الوجود التركي العقبة الرئيسية أمام محاولات النظام بدعم روسي وإيراني؛ تجديد سيطرته على محافظة إدلب. لم يتخلّى سكان المنطقة عن قيم الثورة السورية وهدفها الأساسي المُتمثّل في إسقاط نظام الأسد، كما يخشى سكان شمال غرب سوريا، من فرض عملية سياسية عليهم؛ لا تُلبّي احتياجاتهم، ولكن الثوار ليس لديهم الوسائل لإقناع تركيا بعدم تغيير سياستها، سوى عرض سيناريوهات الفوضى في حال التصعيد في إدلب، ووصول مليون لاجئ آخر إلى الأراضي التركية.
ختاماً، لن يكون طريق التطبيع بين تركيا وسوريا سلساً، لكن أردوغان والأسد؛ قد يستفيدان من الخطوات الأولية في هذا الاتجاه، فيمكن لأردوغان، أن يُقدّم حتى تسوية محدودة، مع اتخاذ خطوات عسكرية قوية ضد حركة المقاومة الكردية في شمالي العراق، وشمال سوريا، كإشارة للجمهور التركي، بأنه يفعل ما هو ضروري للتعامل مع كلّاً من “الإرهاب الكردي” كما يصفه، ومشكلة اللاجئين. وفي الجانب السوري، يمكن للأسد أن يستفيد من التطبيع مع تركيا، كجزء من جهوده لإعادة ترسيخ مكانة سوريا الإقليمية، وكوسيلة لإبعاد تركيا عن تنظيمات المتمردين وتحييد أهم جيب للمقاومة في البلاد.