الإصدار الثامن لـ”أصوات نسائيَّة في المنفى، الكتابة حينَ تُشفي”

بمجموعة نصوصٍ مختلفة، دوَّنتها أقلام نسويَّة من مختلف الدول العربيَّة، صدر كتاب بعنوان: “أصوات نسائيَّة في المنفى” بلغتين مزدوَجتَين: العربية والألمانيَّة، وهي السلسلة الثامنة ضمن مشروع: “نساء من أجل مساحات مشتركة”، و هي عبارة عن نصوص تكاد تقترب من اليوميّ المُعاش بالنسبة للّاجئات السوريات وغير السوريات في الشتات، ولكن بها مجموعة كبيرة من المشهديَّات، والعوالم التي نحن في الداخل بعيدون عنها إلى حدٍّ ما، حيث الاغتراب والوجع اليومي، الانتقال من منزلٍ إلى آخر في بلادٍ غريبةٍ، الهروب والهجرة وغيرها من التفاصيل التي تظهر للإنسان لمجرد خروجه من قوقعة بلاده والدخول إلى قوقعة بلادٍ جديدة.

اللغة المشهديَّة:

تتميز النصوص المكتوبة في السلسلة الجديدة،  بكونها نمطاً كتابيَّاً جديداً، أو على الأقل نمطاً أفرزته الأحداث التي جرت وتجري في سوريا، منذ العام 2011، فتفاصيل اليوم بالنسبة لأي امرىءٍ يعيش خارج الحرب، قد تكون غير ذي بال، ولكنَّها بالنسبة لمن عاش الحرب وخرج من دائرة الحرب إلى مكانٍ جديد تتميَّز بأهميَّةٍ نفسانيَّة كبيرة لا يمكن وصفها، ستكون هناك ثيمات أخرى تطفو على السطح، العلاقات الجديدة، المكان الجديد، نمط وأسلوب الحياة المختلفة، المنزل الجديد وسطوة القديم، لذا تضجُّ نصوص الإصدار الجديد بتلك التفاصيل المرعبة، التي لا يتوانى القارئ عن تحاشيها، أو حتَّى تخيُّل أنها قد تحدث معه يوماً ما، تقول، نغم ترحيني، مثلاً في إحدى النصوص:

“لم تكن صديقتي تعرف حينها ما إذا كان بيتي الجديد صغيراً أم لا، إلّا أنّها عرفت بطريقةٍ ما أنّ بيوت الغربة تضيق بأصحابها مهما اتّسعت، وأنّني سأحتاج إلى ألف حبّ وحب كي أستطيع الاستمرار”،  تلك الإشارة إلى “بيوت الغربة” فيه ما فيه من القسوة، وأنَّها مهما اتَّسعت؛ نراها ضاقت فجأةً دون سابق إنذار، ذاك التفصيل المُشار إليه، يجعل من الذكريات تطفو مثلَ حقائق ملموسَةٍ نراها بأعيننا.

تذخر النصوص بتراجعها الدائم إلى الخلف، حيث الذاكرة، والمقارنة بالوضع الجديد الطارئ، والتركيز على مفردة البيوت، كثيمةٍ سرديَّة؛ تشير إلى ما يعنيه البيتُ للإنسان حين يبتعد عنه، ويسكن في آخر، كما تقول، نغم ترحيني، في موضعٍ آخر من نصَّها المعنوَن بـ: استعادة العادي،  شرط بناء البيت في الغربة:

“إنّ مشهديّة استعادة العادي في الغربة تبدو وكأنّها المسألة الوحيدة التي أستطيع أن أتحكّم فيها تماماً، ولي الأمر – كلّ الأمر – في أن أخلق وطناً صغيراً داخل المنزل الجديد، منزلٌ أضع فيه من اللوحات، وأباريق الشاي المعدنيّة، ومرطبانات المونة، والصناديق الخشبيّة، والبطاقات البريديّة، والأغاني، والعطور، ما يجعلني أتأمّل أنّ الوقت سيحيله إلى بيتٍ أعتاد عليه وكأنّني لم أفارق البيتَ أبداً”.   

استعادة الماضي الذي يقبع في الذاكرة، هو أمرٌ قاسٍ إلى حَدٍّ بعيد، فهو استذكارٌ للمكان الأوَّل، في مكانٍ ثانٍ بعيدٍ عن الأوَّل، بُعدٌ لا علاقة له بالمسافة كرقم، بل له علاقة ببعدٍ نفسيّ، يتأجّج كلَّما مرَّ الإنسانُ بظرفٍ شديد داخل حياته الجديدة، لتُحيلنا نغم، مرَّةً اخرى، إلى الكتابة عن الغربة كدواءٍ مضادٍّ للغربةِ ذاتها، على فرض أن اعتبرنا الغربةَ داء:

“يبدو أنّ الحاجة للكتابة عن الهجرة والتأقلم لم تفارقني بعد؛ وفعل الكتابة يكاد أن يكون الأداة الوحيدة التي أعرف من خلالها إذا ما نجحتُ في أن أجعل غربتي أقلّ ممّا هي عليه، سأكتب اليوم عن استعادة “العادي” في يوميّاتي بعيداً عن صخب كلّ ما هو جديدٌ: الناس، والأماكن، واللغة، وتفاصيل كثيرة كلّها جديدة”.

تغيُّر الفكرة لمجرَّد الانتقال من مكان إلى آخر مختلف؛  يُعتبر المحفِّز الأكبر داخل نصوص الإصدار برمَّتها، لنلاحظ أنَّ الكاتبة السوريَّة، تيماء حاج حسين، تُحدِّثنا عن فكرة الأمكنة القديمة، حين تضيعُ ولا يمكن العثور عليها داخل المكان الجديد:

“مشيت في شوارع مدينة بريمن الألمانية، لكني لم أجد أي شخص أعرفه، لم أجد من أُسلم عليه، وأرفع يدي عالياً لأشاور له، لم أجد من أحمل معه أغراضه، لا يوجد محل الفلافل التي أحبها لأتوقف عنده، سرحت بخيالاتي وأخذني الحنين إلى تلك الشوارع … إلى طريق المخّاضة، إلى شارع المساكن، للعشاق، إلى الوراقة، السوق الصغير وطريق القلعة، عدت لشارع الجوز؛ شارع الطفولة، إلى ضحكات الناس التي أعرف وجوهها وتعرفني، إلى السلامات الحارة والامتعاضات، إلى الاستهزاء والاستنكار في عيون البعض، تغيرت الدنيا حقاً وتغيرنا، ربما لم تتغير تلك الروح الشقية فقط، التي فهمت الآن جيداً معنى حدود التاريخ والجغرافيا والزمن، ولكنها لن تستسلم”.

أفكار كثيرة تعرضها النصوص في سياق الغربة وقساوتها، وهي أفكار يوميَّة تراود المهاجرين بشكلٍ عام، ولحسن حظّ البعض، أنَهم بإمكانهم تدوين كل تلك المآسي الشخصية التي تحتلُّ التفكير بأكمله ربمَّا كنوعٍ من الخلاص، أو ربمَا للنسيان تحاشياً للألم، ما البيتُ الآن؟ تعاريفُ كثيرة تتتالى في هذه النصوص، ربمَّا هذه إحدى التعاريف التي كتبتها السوريَّة، إيمان كمال الدين، في نصّها المُعنوَن بـ: “المنزل”

“في أي مكان نستقر فيه نبحث أولاً عن منزل، أربعة جدران تحمي تفاصيلنا الصغيرة ونخبّئ في زواياه ذاكرة ما، سبع سنوات من الترحال الدائم من كامب إلى آخر ومن منزل مشترك إلى آخر، لكنك لا تستقر، الحقيقة التي صفعتني هي أنه لا يمكن أن يكون لك منزل حيث تُلقي قبعتك، بل حيث تكون مرغوباً ومُرحباً بك، لكن كل ما نملكه في هذه البلاد مفاتيح قديمة لأبواب لا تعرفنا ولا نعرفها، وكل ما تعلمناه من تجربة هذا العالم؛ هو الانتظار وكأنّنا لا نعرفه من قبل، كل شيء كان يقول لنا بطريقة أو بأخرى: عودوا إلى وطنكم”.

تنوُّع المواضيع

تتسّم نصوص الإصدار برمَّتها بتعدّد مواضيعها،  النوستالجيا، حقوق المرأة، الأنثى وكيف تنظر إلى نفسها، الحب، المنازل، البلاد، الغربة، وغيرها من المواضيع التي تدخل في صياغة السلام الداخلي للإنسان، وكل ذلك عبر كتابةٍ بسيطة، بعيدة عن التعقيد والحذلقة اللغويَّة المقيتة التي تشوِّش أصلاً على الفهم وتؤذي المعنى، بل على النقيض تماماً، نصوصٌ سرديَّة مرنة، تتحاشى الانزلاق نحو هاوية التعقيد وغياب المعنى.

تسعة نصوصٍ مختلفة التوجُّهات، ولكنَّها تصبُّ في بحرٍ واحد، وهو البحر الذي ابتلع المهاجرين يوماً ما، ومن ثمَّ لفظَهم إلى أماكن متفرِّقة ليعيشوا سَوادَين في الآن معاً، سوادُ الغربة، وسوادُ صعوبة التأقلم، ليصبح المشهدُ قاتماً بشكلٍ مضاعف ويبعث على الحزن؛ لما آلَ إليه حال الإنسان الرَّاهن.

في معرض تقديمها للإصدار الجديد، تقول الصحفية السوريَّة، ياسمين مرعي، عن هذا الإصدار: “يجمع الإصدار الثامن من (أصوات نسائية في المنفى)؛ نصوصاً لنساء من سوريا ولبنان، غادرن بلادهن ويعشن اليوم في ألمانيا، النروج، قطر وتركيا، تعكس هذه النصوص مدى تشابه الظروف التي تعيشها النساء في المنافي وبلدان اللجوء على المستوى العاطفي، المرتبط بشكل أساسي بالحنين إلى الوطن والأهل والأصدقاء، كما تعكس وجهات نظر مختلفة للنساء حول العلاقة بالذات، الوطن الأم والأوطان الجديدة.

هناك الكثير من الحرج والخوف في نصوص النساء، لكن هناك أيضاً إحساس عالٍ بالمقاومة والقوة، وهو أهم ما تقدمه النساء المهاجرات واللاجئات عند الكتابة عما يواجهنه في الأوطان الجديدة من تجارب اجتماعية، ثقافية ومهنية.

يبقى الجامع بين هذه النصوص هو (الإنساني والنسوي)، ويبقى الهدف منها مد أفق معرفي أمام المجتمع الألماني المهتم بقضايا الهجرة واللجوء عن النساء الناطقات بالعربية ممن يعشن في ألمانيا، وعن تطلعاتهن والتحديات التي يواجهنها”.