شارع العشق والحرب.. ذكريات يعجُّ بها القوتلي في القامشلي

القامشلي – نورث برس

يمر سكان مدينة القامشلي، من شارع “شكري القوتلي”، دون أن يضطّروا لتغيير مسارهم أو عيش حالة من التّأهُّب النفسي، بعد إزالة الحواجز الإسمنتية التي أغلقته منذ بدء الحرب السورية.

وأُعيد فتح الشارع أمام المارة والسيارات، في منتصف نيسان/ أبريل، من العام الجاري، بعد إزالة قِوى الأمن الدّاخلي (الأسايش)، تلك الحواجز التي كان يضطر سكاناً وخاصة المطلوبين للحكومة إلى تغيير اتجاههم بسببها.

وسُمي هذا الشّارع على اسم أحد رؤساء سوريا، وهو شكري القوتلي (1943-1949)، الذي عُرف بمواقفه الوطنية وبدوره الكبير خلال الاستقلال عن فرنسا، ليُطلَق على عدد من الشّوارع في معظم المدن السّورية اسمه، كشارع القوتلي في دير الزّور، ودمشق، وحلب وغيرها.

ولا يتفرّد هذا الشّارع بالاسم في سوريا، لكن له خصوصية ورمزية لدى أجيال تلك الفترة وآباء وأمهات الكثير من سكان القامشلي، إذ أطلقوا عليه اسماً آخر وهو “شارع العشاق”.

ومن معنى الاسم المحلي، تفهم لماذا أُطلق على الشّارع الذي يبدأ من حي الكورنيش جنوباً وتحديداً دوار المحبة وصولاً إلى دوار السّبع بحرات شمالاً، إذ كان معروفاً أنه المكان الذي يلتقي فيه عُشاق المدينة.

ولا بد للمارّ أنّ يلحظ بسهولة بعض الكتابات والخربشات على الجدران؛ التي ما زالت آثارها ظاهرة، كقلب مرسوم على أحد المنازل؛ لا تكاد تستطيع قراءة الأسماء التي كتبت على طرفيه؛ لأن الزّمن أزال بعض ملامحها، ولم يُبقي منها إلا حروفاً مبعثرة.

وتبرز أهمية هذا الشّارع؛ بأنه حمل على عاتقه نفس الاسم الذي يطلق على المدينة “مدينة العشاق”، أو “باريس الصّغرى”، باعتبار أنّ الفرنسيين هم من خطّطوا تنظيم المدينة، وحتى “زالين” كما يسميها مسيحيوها.

أبنية هجرها أصحابها

وبمجرد تجاوز حي الوسطى شمالاً، ستدخل مباشرة في شارع القوتلي الذي يمتد إلى الأعلى، لتلحظ الأبنية المتراصّة المُتقاربة التي بني جميعها بنفس النمط الغربي، وازدحاماً كبيراً بالسّيارات؛ وبالأخصّ عند دوار الكورنيش بجانب كراج السّياحي.

وفي التّسعينيات، لم تكن هذه الطّوابق عالية هكذا ولا توجد تلك المحال، إذ أنها انقسمت في تلك الفترة إلى شكلين من البناء يبرزان معالم سكانهما، فمنها ما كان على شكل أبنية أرستُقراطيّة قديمة، وأخرى مصنوعة من الطين، متهالكة، يعلوها أسقف من القشّ، تُسرّب الماء في الشّتاء.

ولكن معظم تلك الأبنية فارغة، فهي مرصوفة في مدينة هجرها أصحابها، ليتّخذ العثّ بيوتهم كملاجئ يعمها السّكون.

وهناك على الرّصيف؛ عجوزان (رجل وامرأة) حفر الزّمن على ملامحهما علاماته، يتحدثان بصوت عالٍ بلهجةٍ قروية محلية “الشّاوية”، خالية من التّصنع.

وليس من الصّعب، أنّ تعرف بأنهما ذاهبان إلى المحكمة الموجودة في الشّارع نفسه من أجل ورقة لابنهما الذي رزق حديثاً بطفل، فهو غير قادر على إخراجها بنفسه كونه “مطلوب للخدمة الإلزامية”.

ومن الجهة المُقابلة؛ يحاول شاب وفتاة أن يُمسكان بأيدي بعضهما؛ لقطع الشّارع المكتظ بالسّيارات، ومن خواتمهما يمكن بسهولة معرفة أنهما بمرحلة الخطوبة.

وعلى النّقيض منهما، تحمل امرأة ترتدي عباءة سوداء، وحجاباً؛ لم تضع له دبابيس لتثبيته، طفلاً صغيراً على كتفها، وحقيبة تضعها على كتفها الآخر؛ الذي يمتد إلى يدٍ تُمسك بشدة أصابع طفلها الصّغير الآخر، ورجل يظهر أنه زوجها أو قريبها، يخبرها أن تسرع فقط، دون أنّ يساعدها.  

جامعٌ وكنيسة تفصلهما خطوات

وبالسير إلى الأمام قليلاً، تتربع كنيسة الأرمن الكاثوليك، ببناء يتّسم بالعراقة والجمال، وحِرفية التّصميم، فيه ساحة واسعة، وشبّان صغار يقومون بالتّنظيف، ولربما كانوا تلاميذاً في مدرسة الأرمن الخاصة.

وفي الجهة المقابلة لها؛ في نهاية الشّارع جامع “زين العابدين”، ذو القبة الخضراء، ولو تسلّلت نظراتك إليه سترى بضعة مصلّين يتعبّدون ويدعون.

 وقبلها ببضعة أمتار؛ مدرسة “زكي الأرسوزي”، بعد المجمع الحكومي مباشرة، خالية عروشها من الطّلاب والمعلمين، حيث عطلتهم الصيفية.

وعند الوصول إلى دوّارٍ كان يدعى يوماً ما “دوّار الشّهداء”، ستجد أنّ الازدحام ازداد بنسبة كبيرة، وما تلبث أنّ تضج أذنيك بأصوات الزّمامير، ذلك لأن سرافيس الحزام، وسيارات الهلالية؛ تمرّ من تلك النّقطة التي تعدُّ مدخلاً للمتجهين نحو السوق المركزي، ومخرجاً منه.

ولن يغيب عنك، ذلك المنظر لرجل في الثلاثينيات، يرتدي ملابس متواضعة، ويمسك بيده خيوطاً تتشبث بها بالونات حمراء وصفراء على شكل قلوب، حتى لا تأخذها الرّياح إلى السّماء.

تساؤلات

وبالطبع نشأت في هذا الشّارع ذكريات صراع جديد، إذ نابه من الحب جانب، فالحواجز لم تُزال لأن “الصّراع انتهى” وجميع الأطراف اتفقت، بل كان ذلك على خلفية مشكلة بين الحكومة السّورية والإدارة الذّاتية.

وفي نيسان/ أبريل، من العام الجاري، منعت حواجز الفرقة الرّابعة دخول الطّحين والأدوية إلى حيي الشّيخ مقصود والأشرفية بحلب، فردّت قوى الأمن بمحاصرة أفران الحكومة في القامشلي والحسكة.

وانتهى التوتر بين الطرفين باتفاق، سيطرت من خلاله الإدارة الذاتية على شوارع وأحياء كانت تحت سيطرة القوات الحكومية.

وليس من الصّعب أنّ يصف سكان محليون، وضع الحواجز التي كانت موضوعة، من قِبل الحكومة السّورية والدّفاع الوطني، وقوى الأمن “الأسايش”، والتي لم تكن تبعد عن بعضها أمتاراً، أي أنك لو أردت المرور بهذا الشارع؛ عليك أن تستعد نفسياً وأمنياً.

وشهد الشارع عام 2016، تفجيراً انتحارياً أسفر عن فقدان ثلاثة أشخاص لحياتهم وإصابة آخرين.

ويتساءل البعض، هل ستزول ذكريات الحرب من هذا الشّارع، بعد أن أصبح العبور منه أكثر سهولة ولا يستلزم أنّ تخوض تجربة نفسية صعبة خوفاً من الحواجز التي كانت تملؤه؟

إعداد وتحرير: رهف يوسف