“ثُقب” الأمل، وحكاية التمثال في طرطوس

لا يحتاج الأمر إلى الكثير من التفسير، لخطوات الدول في الاستعراض الجمالي والسياحي، في طرقاتها وحدائقها العامة، وهذا المسلك الحديث؛ هو بحدّ ذاته موروث عن حضارات الزمن القديم في شتى بقاع الأرض التي كانت مراكز حضارية، وحتى حين انهارت هذه المراكز تركت أوابدها الحضارية، لتشهد ثقافتها وعمرانها، وتعبِّر بشكلٍ واضح عن الحالة التي عاشتها هذه المدن أو الدول.

اليوم نرى الكثير من التماثيل والمنحوتات الخلَّاقة التي تترك بصمتها للشعوب، وتصبح سِمة المدينة، وتنطبع بذاكرة أي مواطن أو سائح يعرف هذه المدينة أو يسمع عنها، ولا شك في أن فن النحت بحدّ ذاته؛ يُشكّل تصوُّراً انطباعياً في ذهن مُتلقّيه، وبالتالي فإن مفاهيم الناس العامة هي التي تعطي للمنحوتة عنوانها أو اسمها، أو حتى شرحها ودلالتها، ولكن هذا الشرح بحد ذاته هو مثار للتأويل والاختلاف، وقد يتداخل مع الموروث الثقافي بين المحرَّم والمقبول، وكلنا لا ننسى كيف اعتبرت المنحوتات على الأشجار الخشبية في دمشق قبل عامين، مثاراً للجدل بين تيار مُتحفِّظ، وبين تيار منفتح؛ حين نُحتت بورتريهات عارية على أشجار في إحدى حدائق دمشق، وانتصر حينها التيار المُتحفِّظ (كالعادة)، واستُخدم المنشار (وسيلة التفاهم البشرية المعاصرة)؛ لإزالة هذه المنحوتات الخشبية؛ لحماية الذوق العام من الخدش. ولا يمكن أن يعرف أحد مدى رقة ودماثة الذوق العام القابل للخدش مع أول هبَّة ريح غير معروفة المنشأ، وليس معها أختام تُثبت طواعيتها وقدرتها على عدم تغيير أوكسجين الاختناق المتداول.

وخلال الحرب التي شهدتها البلاد، قُطع رأس تمثال أبي العلاء المعري، ونشأت تماثيل مثيرة للضحك كالتمثال الجصّي السيء الصنع الذي تربع في حديقة مدخل الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وبقي عدة سنوات؛ مُمثّلاً للملكة زنوبيا، ووفاءً لها؛ إثر سقوط مدينة تدمر على يد تنظيم داعش التكفيري، فكان الردّ بتمثال جصِّي مطلي بلون سيء، لم يتحمل العوامل الجوية وانتهى أمره في المخزن الخلفي للهيئة بين مُخلّفات التصنيع والتعمير والإنشاء للاستديوهات والديكورات، وأُزيل ليس لأنه قبيح، إنما بالفعل لأنه لم يتحمّل العوامل الجوية، لا أكثر ولا أقل.

اقرأ أيضاََ

تشويه بصري

ولا يمكن تجاهل تمثال اسمنتي سيء الصناعة أيضاً ومنتشر جداً في مداخل المدن، لجندي مقاتل في وضعيات الرمي واقفاً أو منحنياً أو منبطحاً، وكلها صنعت على عُجالةٍ لتكريم الجندي السوري، على البذل والعطاء، ولكن لم ينتبه أحد أن هذه التراخيص غير الجمالية هي تشويه بصري للمعنى والمضمون، وبالتالي لن يجعل من الأطفال المارّين قرب هذه التماثيل؛ سوى أطفالاً مرتعبين من أخطاء النسبة الذهبية لصناعة الجسم التي تحدّد مقاييس الرسم، والنحت، والتمثيل، لجسم الإنسان المعطاء أياً كان عطاؤه، والبعض أراد أن يبالغ بتقدير العطاء للجنود والشهداء فاستبدل الخوذة كغطاء رأس، لتكون تمثالاً تكريمياً؛ بحذاء كغطاء إسمنتي قبيح الصنع أيضاً، وكأن النظرة الجمالية، توضع في آخر الاهتمامات وأن النظرة التكريميَّة هدفها مكسب هنا أو مبالغة هناك؛ تدرُّ بعض الأرباح السريعة والتي يضرب بها المثل في مجاراة فعل الموت، والبذل بلا مقابل الذي يقوم به أي جندي يقف خلف سلاحه ليحمي بلده، فيكون التكريم تمثالاً مُرعباً لحذاء عسكري، لن يتحمل أي عامل جوي، وسيكون مصيره الهدم، مثلما حدث مع تمثال زنوبيا الجصِّي المذكور سابقاً.

آراء عبثيَّة وتهكُّم:

قبل يومين، يبدو أن صنَّاع الرواج الإلكتروني؛ التقطوا صورة عبثية سريعة لتمثال في أحد دوّارات مدينة طرطوس، يسمَّى شعبياً باسم دوّار المطاحن، ولكنه رسمياً يسمى دوار جسر السياحة؛ لتمثال رخامي، مصنوع بحرفية من حيث الصنعة، ولكن الانطباع الذي أثاره شكله مع اللقطة المأخوذة له، أشعلت الكبت الداخلي في قلوب الناس؛ تجاه هذا التمثال الذي يمكن تشبيهه بأنَّهُ فتحة رماة السهام والقوس في القلاع القديمة، والتي تكون عادة ضيقة من الداخل ومتسعة من الخارج لتحمي الرامي خلفها، وهذه الصناعة هي بحدّ ذاتها منتشرة بوضوح في قلعة حلب، وقلعة الحصن، والكثير من القلاع القديمة في سوريا، ولكن على ما يبدو أن السوريين تداولوا قراءته بطريقة مختلفة هذه المرة، فاعتبروا أنه ثقب الأمل (واستخدموا لفظة بخش)؛ وهي لفظة عامية ولكن لها جذر فصيح آرامي وتعني الثقب، بقصد التهكُّم على جرعة الأمل التي باتت تجترّها البلاد؛ التي ترزح تحت ضائقة اقتصادية، لا يمكن التغافل عن مدى كارثية النتائج المتوقعة والواضحة لها حاضراً ومستقبلاً.

لمتابعة جميع الأخبار… حمل تطبيق نورث برس من متجر سوق بلاي

وقد زاد أمر التهكُّم اللفظي، “الطين بلة”؛ حين ذهبوا إلى تشبيه هذا التمثال بفرج المرأة، وهنا يُمكن أن يثير ذلك حفيظة النسويين، الذين يتحسسون من أي تعليق ذكوري، يستخدم معايير لها غرضية الانتهاك من حرية المرأة، واستخدام تفاصيلها الجسدية في التذمُّر، والتنمُّر، والتعالي عليها ككائن اعتبر ضعيفاً عبر عصور طويلة لا يمكن طيّها خلال مدة زمنية قصيرة، وليس في ظروف يعتبر الناس جميعاً أنفسهم مُكبليّ الأيدي، وعاجزين عن التحكُّم بقوت يومهم، وإشراقة شمس غدهم، وهذا له ارتباطه الوثيق بالقيد المفروض على المرأة في كل القوانين والأعراف التي تراكمت فوق عقلها وروحها، واستعملت جسدها مطيّة للإهانة والتحقير للأسف.

قضيَّة رأي عام:

إن هذا التمثال الذي يصعُب الآن التعرف على اسم نحّاته؛ ليس حديث العهد، وهو قابع على أحد مداخل المدينة منذ سنوات، ولكن شاءت الأقدار اليوم أن يراه مروّجو التواصل الاجتماعي ويجعلوا منه قضية رأي عام متداولة، أُفرغت فيها الكثير من المشكلات المجتمعية والاقتصادية والكبتية، التي نعاني منها في الماضي ولا نزال، علماً أن لهذا التمثال شبيهاً ولكنه أصغر حجماً في المدخل الشمالي للعاصمة دمشق، ولكن الثقب الموجود؛ يشبه اختراق قذيفة لجدار؛ وكأن النحّات الذي أرساه في هذا المكان؛ قدَّم استشرافاً لمدن مقبلة على تبادل القذائف في مداخلها بدل تبادل عبارات الترحيب بالزوار والسائحين، وإن ذهبنا مع التصور المتداول اليوم لهذا التمثال، في أنه حالة تضييق أو انتهاك في حياة السوريين؛ وفق ما يتداولونه في مقولاتهم التي بدا الكثير منها فظّاً وخادشاً بحق، فلكأنه أيضاً استشراف من النحّات للحاضر الذي نعيشه، يقول للحياة أن فُسَحَكِ باتت أكثر ضيقاً، ولا يمكن النفاذ من ثقب أملك هذا أو لا يمكن انبلاج الأمل منه إلا بعد أن تخضع روح البلاد لعملية قيصرية تنتزع المنتظر من خاصرتها بدل أن تكون فسحة الأمل أكثر اتساعاً، والتي لولاها ولولا قدرة السوريين على انتزاعها من أية خاصرة، ومن أي ثقب، لما أمكنهم تحمُّل ما عاشوه وما يعيشونه، وما يخشون أنهم ينتظرونه.

أحمد السح