ماذا لو جَهدنا لرفع الذوق العام؟

أحمد السح

تتعالى الأصوات الثقافية بين حين وآخر، مطالبة بتدخُّلات رسمية لرفع الذوق العام في البلاد، وكأن الذوق العام هو عبارة عن دكّة شروال رخوة، ومهترئة تحتاج دوماً لمن يعقدها، ويرفعها حتى لا تنزل، فتبان عورة الرأي العام.

في الحقيقة بين حين وآخر؛ يذكرنا هذا الأمر بلغة قديمة باتت بائدة، هي لغة الوصايات على كل شيء، لغة النقل والتلقين التي تسود وتتسّع في هذه البقعة الجغرافية من العالم؛ التي باتت تتضيّق أكثر فأكثر، ويتحارب فيها وجهان فكريان بشكل أساسي، وجه يريد الانفلات من كل معيار، وضرب كل أساس، وهو ما سنسميه (الشعبويّة)؛ حيث تنطبق معاييرها حرفياً في بلادنا، ووجه آخر يحب الوصاية والمشي بالعصا، وقولبة كل شيء، حتى ذرات الأوكسجين، وهم ما سنسميهم (عشاق الديكتاتورية).

لو تُرجمت مهاتراتنا عبر السوشيال ميديا لأجنبي أوروبي حول قضية ما، لتفاجأ دون شك، فبعد أكثر من قرنين على ظهور مبادئ الحُريّات الإنسانية، وانتشارها ومن ثم إقرارها، سيستغرب وجود فئة، تطالب السلطات الرسمية بأن تحدد لها ما تسمعه وما لا تسمعه من الأغنيات.

نعم، لا داعي للتخمين؛ فأنا أُشير إلى ما سعى إليه نقيب الفنانين، محسن غازي، قبل فترة بهدف إلغاء حفلتين لمغنيتين لا نعرف إن كانتا مصنّفتين عنده في النقابة، والسبب هو الابتذال والانحطاط في مستوى الكلمات، ولكن ليس هذا هو المُلفت، المُلفت هو الجمهور الذي يريد من النقابة أن تتدخّل، وفي معنى آخر أكثر عمقاً للنقابة، أنه يريد من الدولة أن تتدخّل، إنه المواطن السوري، الذي عاش عقوداً في كنف الدولة، تشكَّل في قعر عقله الباطن منطق خاص حول الدولة القادرة القوية التي تقول، لأي شيء.. كن!.

ثقافة القرارات الرسميَّة

لا يذكر مُنظِّرو الثقافة وقادتها ومعرّفوها، أن هناك ثقافة نشأت بقرارات رسمية، فالثقافة هي كل ما يقدمه شعب ما في منطقة ما، فلا يمكن القول إن الشعر العربي في شبه الجزيرة نشأ وتشكّل وتطوّر بقرار وإجماع قبلي، ولكن الظروف هي التي هيأت هذا المُعطى وقدمت له كل المُسبّبات للنمو والتطوُّر، في الحقيقة وبدقة أكثر؛ إنه الاقتصاد الداعم والمُمهِّد والمؤسّس للثقافة، طبعاً ستسود لغة المغنيتين في أي مكان في العالم؛ إن كانت حفلاتهما تعطي منحنى اقتصادي أكبر وأكثر تركيزاً مما سيُقدمه مترجم ما، لكتاب ما في العالم، ويتقاضى عليه مثلاً (ثمانية ليرات للكلمة الواحدة – بالمناسبة هذه تسعيرة ترجمات الهيئة العامة السورية للكتاب وهي علم من أعلام الثقافة السورية).

أما من حيث المحتوى المجتمعي والاحتضان الشعبي، فلطالما قرأنا وعرفنا أن هناك حديثاً بين مصطفى العقاد والفنان شكوكو، على ما أظن حكاية التنافس من سيعرفهما أكثر.. وهذا هو الجدل البيزنطي- (لدي شك دائم أنه جدل بيزنطي، حكماً كان في المجمع سوري ما) – فالمثقفون أقل تأثيراً في المجتمع بحدّ ذاتهم، لأن لديهم روافع أخرى تسعى لتدعيم وجودهم، هي الإضاءة والتأثير، أما من هم المؤثرون اليوم، أعتقد أن كلمة إنفلونسر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وحدها ستجيب عن هذا التساؤل العابر.

تماشياً مع مفردة حديثة وشاملة هي المحتوى، يمكن القول إن المحتوى غير الهادف والسيء في كثير من الأحيان دائماً موجود، ولكن المُقلق كونه يعطي مؤشرات مُلفتة؛ هو انتشار المحتوى غير المرغوب وتسيّده الموقف، واضطرار أصحاب المحتوى الجيد الانصياع للسائد، بتفصيل أكثر يمكن القول؛ إن ما يحدث هو انعكاس واضح لمؤثرات عالمية وليست محلية، إنها الشعبوية التي تتسيّد الموقف في العالم، حتى أوصلت رؤساء إلى سُدّة الحكم؛ دونالد ترامب، وبوريس جونسون، نموذجان واضحان دون جدال؛ عن الحالة الشعبوية التي اخترقت كل شيء، وهذه الشعبوية تتحرك اليوم وتضرب في كل المجالات، وهي قادرة نتيجة اندماجها مع وسائل التواصل الاجتماعي إلى إبراز أي شخص، لأنه طبعاً يملك صفة وحيدة أنه ليس نخبوياً، فالنخبويّة باتت عدوة الناس، وهي المكروهة والمنبوذة والمتهمة بالتعالي؛ في حين أنها كانت يوماً رافعة من روافع التفوق لأي شخص، مما يجعله نموذجاً وأيقونة، في عيون وقلوب الجماهير، بينما تريد ذات الجماهير أو لنقول: أحفادها؛ أيقونة منهم وفيهم، تأكل معهم وترقص معهم وتشتم مثلهم، وهم قادرون على اختراق كل ما لديها من خصوصيات، ليحذوا حذوها وينتزعوا هذه الأيقونة بعد فترة، ويحلّ أي شخص آخر مكانها، وهذا ما يُلاحظ عند المؤثرين (الإنفلونسرز) أنهم يُستبدلون كما محارم الكلينكس، دون أي قرار رسمي ممهوراً بختم، هي لحظة فقط يتحول فيها هذا المؤثر إلى مثبَّط عديم التأثير، (فيُنسى كأنه لم يكن).

الثقافة وإيقاف الحروب

ذات يوم حلم شاعر أوروبي، بأن البشر كلهم سيتحدثون بلغة الشعر في حياتهم اليومية، مما يؤدي إلى رفع الذائقة العامة، وسينعكس ذلك بإيقاف الحروب وعلو القيمة الإنسانية، والابتعاد عن الدناءات لأن الحياة ستكون أكثر نقاءً وجمالاً، ذاك الشاعر قد نسي، أن الناس كي تفعل هذا؛ يجب أن تتقاضى ثمنه، ولا يوجد أحد في العالم كله، يمكن أن تنقى روحه بينما معدته خاوية، وأن البشرية بكل أحوالها سعت إلى مقولات فكرية وتنموية لم تُحقق سوى اجتزاءات منها، وربما يمكننا القول؛ أن البشرية اليوم، ترتدي ثوباً رُقِّع من نظريات سابقة لم تكتمل، ونظرية الشعبوية الجديدة هي الرقعة الجديدة التي تضاف إلى هذا الثوب المتهالك.

يغلب على معظم النقاشات الفكرية في البلاد، الحديّة والذهاب إلى الأقصى، حيث يمكن لأية حادثة تافهة؛ أن تفجر مستودع ضغوطات مهول داخل كل فئة أو فرد، كون هذا التعبير بقي كامناً ولم يجد له الفسحة الملائمة للتعبير، ولكن هذا الانفجار غالباً لا يودي إلى مرحلة الصفاء، إنما يرحّل إلى مرحلة لاحقة لا أحد يعرف متى ستأتي، ليُشكِّل بدوره انضغاطاً مجتمعياً جديداً، يريد توجيه الناس نحو احتقانٍ قد ينفجر لأجل أغنية تافهة هنا أو رقصة خليعة هناك، علماً أنني لم أعرف يوماً أن فناناً تسبب سقوطه بأزمة اقتصادية لبلاده، مثلاً نيكي ميناج وخلاعتها كانت تعبيراً مُلفتاً لنسأل عن جنسيتها وهي من جزيرتي (ترينداد أند توباغو) متناهيتي الصغر، والأمر ذاته بما يخص بيرنهوفت النرويجي، الذي يتعالى بانفجار أغانيه على برودة شعبه وبلاده، وطبعاً هو لم يُغير من ترتيبها العالي في الدول الأكثر حضارة لسنوات متلاحقة، ولنسأل سؤالاً آخر.. هل أغنيات عمر سليمان التي تجوب دول أوروبا، تُعبّر حقيقة عن الأغنية السورية؟ وهل يمكن جعلها في متناول الأيدي مرة أخرى لتهذيبها؟ إن كان الهدف في كل هذا، هو صناعة السمعة للبلاد! فالبلدان عادة تسعى عبر عقود إلى خطط صناعة السمعة، والتي تُقنع بها الداخل أولاً قبل الخارج..، ففي بلاد رؤوس الأموال، تجد في مختلف المجالات من لا يحمل أي نوع من الشهادات العلمية! لذلك عليك أن تحذر من رحيل نُخبها تدريجياً، ويومها ستبحث عمن يعطيك حقنة ما، لتجد أن الطبيب في المشفى هو مساعد ممرض، من بلاد وصفوها أنها أكثر فقراً من هذه البلاد.

على الهامش، أُريد أن أذكر رأياً لصديق؛ يمكن اعتباره معياراً للفن السوري، وهذا الصديق لا علاقة له بالنقد الفني من قريب أو بعيد! لكنه ذات يوم قال لي: إنه لا يحب الذهاب إلى السينما أو المسرح السوري! وحين سألته مستغرباً.. أجاب: أن والديه قد أحسنا تربيته في البيت، وهو ليس بحاجة للذهاب إلى أماكن تُعتبر بلا تربية، وتعيد توجيهه وتلقينه مفاهيم وطنية وإنسانية وأخلاقية بشكل فظّ، في اتهام مُبطّن دوماً، بأن المشاهد يحتاج إلى جرعات تربوية، تحت صيغة فنية.. أفلا يقتضي هذا الرأي البريء المزيد من التفكير!!