رحيل الفنَّان السوري.. بين الداخل وصدى الخارج

دمشق ـ نورث برس

اتُفق في الدراسات الإعلامية سابقاً، أن ذاكرة التلفزيون قصيرة، وأن الأرشيف الحقيقي لأي ممثل يجب أن يبقى في السينما، ولكن اليوم لا نعرف إن كانت هذه المعايير ستبقى على حالها خاصة أن ذاكرة جيل اليوم ترجع إلى التلفاز، والقسم الأكبر من حيث العدد والأصغر عمراً والأكثر فعالية؛ يستمدّ ذاكرته النوستالجيّة من السوشيال ميديا ((وسائل التواصل الاجتماعي)!! وهنا ثمة إشارات استفهام كثيرة حول مفهوم الذاكرة في هذه الحالة، ويبرز ذلك واضحاً مع رحيل أياً من الفنانين الكبار الذين عاصروا كل المراحل الفنية، انطلاقاً من السينما وصولاً إلى أعمال ما تُسمى دراما المنصّات.

الموت يغيِّب فنانَين سوريَّيَن

في شهر آب الحالي (لعام 2022)، رحل خلال يومين متلاحقين، كلاً من الممثل بسام لطفي (أبو غزالة)، والفنانة أنطوانيت نجيب (بالوع)، وهما فنانان تجمعهما الحالة الريادية، حيث انطلقا إلى عالم الفن في المرحلة ذاتها تقريباً مع اختلاف واضح في خلفية الانطلاقة والمسار.

ومع اختلاف واضح أيضاً في الفارق الزمني للانطلاقة، فرغم رحيل نجيب، عن عمر اثنين وتسعين عاماً ولطفي يصغرها بما يقارب العشر سنوات، إلا أن لطفي بدأ المشوار الفني قبل نجيب، وكانت خلفيته المسرحية قادمة من المسرح القومي، ومن التعرُّف على المسرح العالمي وذلك عام 1956، مع أول أعماله المسرحية، أما نجيب فكانت نشأتها المسرحية، نشأة مسرح شعبي، أو ما سُمي لاحقاً بالمسرح التجاري، ثم دخلت تدريجياً إلى أعمال مسرحية ممهورة بختم المسرح القومي.

وإن كان اليوم لا أهمية لهذا التمييز، ولكن ذلك الجيل يميّز بوضوح بين المسرح الشعبي، والمسرح القومي، لاختلافات في تكنيك الأداء والثقافة والهدف والفكرة، واللغة، فالقومي مثلاً؛ كان يحتكر الفُصحى، بينما يذهب المسرح الشعبي/التجاري، إلى خبايا الحياة اليومية العادية للجمهور، وتقديمه لها بطريقة مُضحكة قد تذهب في كثير من الأوقات إلى حالة التهريج أو الغروتيسك.

هدوء الإعلام

مع رحيل أنطوانيت نجيب، تجاهل الإعلام غياب هذه السيدة لسنوات طويلة، أو ربما لم يلاحظ الجمهور أنه لم يعرف أنطوانيت نجيب؛ سوى سيدة متقدمة في السن، تحصل على أدوار الأم أو الجدة، ولكنه، وبسبب ذاكرته القصيرة، لم يسأل أين كانت أنطوانيت نجيب في مرحلة نشأة التلفزيون ولمعيته، وهي الشابة الجميلة ذات العينين الصافيتين. تُرى مَن أقصاها عن الساحة الفنية؟!. هل زواجها من يوسف شويري سنة 1962، أبعدها عن الفن؟.

الحقيقة من الواضح أن هذا ما لم يحدث، فالفنان شويري، وفق ما يذكر في مسيرته؛ كان حريصاً وشغوفاً بالفن منذ طفولته وقد تزوج أنطوانيت وكلاهما في الوسط، وربما هي سبقته بعدّة خطوات حينها، ولكن المؤكد والذي تتناقله الألسُن؛ أن أنطوانيت نجيب، قد أُقصيت من قِبل فنان نشب سلاحه في وجه العديد من الممثلين والممثلات وامتص جهودهم حتى اليوم، وكان من بينهم أنطوانيت التي يبدو أن سحرها الخاص وسندها الوحيد كان فنها دون أية تراتبيات أخرى، جعلتها خارج الدائرة الفنية لسنوات ولم تعُد إلا بعد أن عفا الزمن، ولكنها عادت عودة اللبوة الحريصة على انتزاع حضورها حتى ولو كان ذلك على حساب مقاييس الجمهور للعمر.

هذا الجمهور الذي أتاحت له وسائل التواصل الاجتماعي آلية تفريغ الشتائم جُزافاً تجاه أي إنسان؛ وخاصة إذا اختلفت المواقف فيما بينهم، ربما هذا ما فعله سوريّو الاغتراب تجاه موت أنطوانيت نجيب، فقادوا حملة تنمُّر على عمرها ومواقفها، متناسين أن هذه الإنسانة لم تكن سوى صوت سوري وطني ولم تدخل في تُرَّهات السياسة، وهذا ليس دورها أساساً ولكن ربما كان حريّاً بشبانٍ صغار؛ هم بمثابة أحفاد لهذه السيدة، أن يتجاهلوا لها كلمة هنا أو كلمة هناك؛ قد لا تقف مع رؤاهم وأفكارهم، لا أن يتحول الموت في كل مرة إلى مثار للصراع وتبادل القدح والذم، ربما علينا أن ندع روح الميت تغادرنا بسلام ولا نتركها محمّلة بما لدينا من آلام وصراعات.

الحقيقة الأصيلة

يجمع زملاء الفنانين الراحلين على اللطف والطيبة التي يلتقي بها هذان الفنانان المؤسِّسان، وأن معيارهما الأخلاقي للتعامل مع الجيل الشاب واحتواءه كان واحداً من الأسس التي اعتمدا عليها طيلة حياتهما، مع فارق صغير، أن بسام لطفي لم يكن لديه أهواء في الإعلام والتحدُّث عن نفسه، فهو متحدِّث لبق، ولديه الكثير من الأخبار والذكريات، شأنه شأن كل الفلسطينيين والفنانين بالعموم؛ الذين عاشوا مراحل مختلفة من تغيُّرات هذه المنطقة وتناقضاتها.

كما يمكن أن تسمع من بسام لطفي الكثير من المعايير الفنية التي تبدو للبعض كلاسيكية ولكنها في الحقيقة أصيلة في الفن، وهو تربّى على هذه الطريقة، أن يقدِّم النصيحة ويعتمد التجريب ويقوّم نطقه ولسانه في الإذاعة ويعيش التجربة الفنية بلا مبالغات أو بهورة، كما يُلاحظ على فناني هذه الأيام، كما لا يظهر للإعلام الذي لا يقدم مقولة، ولذا لن تجده موجوداً مع إعلام التريندات مع أنه لم يغب عن معمل الإعلام السوري، الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون؛ إلا ما ندر، حيث يواظب الذهاب إلى دائرة التمثيليات، والعمل في الدراما الإذاعية في حين لا يطالبه كثيرون بالظهور أمام الكاميرا، الكاميرا التي رسمت انعكاساتها على تجاعيد وجهه، هذا الوجه الذي بالغ في تغضُّنه ليس بسبب المر فحسب، بل لأنه مع كل تجعيدة في الوجه هناك بريق ضوء كاميرا تلفزيون، أو بقعة ضوئية مسرحية، أو لمعة كاميرا سينما الأبيض والأسود؛ التي كان لطفي الأول فيها في فيلم رجال تحت الشمس، عن رائعة مواطنه غسان كنفاني، حين كانت السينما السورية تتلمّس طريقها، كان لطفي الأول ونقصد هنا من المغامرين الأوائل، ليستمر في عطائه طوال هذه السنين.

فكرة التميّز في الأداء والاشتغال على الشخصية بمعايير قديمة أو حديثة، لم تكن موجودة لدى الراحلة أنطوانيت نجيب، فهي منذ عرفناها على الشاشة تُحسن التعامل مع الكاميرا، كما تُحسن الطغيان بشخصيتها الحقيقية على أية شخصية، وربما لا يذكر الجمهور محاولة مغايرة لها كانت في مسلسل (لوين)، كتبه وأخرجه طلحت حمدي، بداية الألفينات، وكان يشاركها الخط الدرامي الممثل بشار إسماعيل، وحينها كانت الشخصية مختلفة عنها لأنها كانت تلعب دور متصابية، أما من حيث الإبداعية والكلمات المُنمّقة التي قيلت في رثائها من إعلاميي غير الاختصاص؛ فقد كانت مُجحِفة بحقها أكثر من كونها إطراء، لأن هذه الفنانة اعتمدت تقنية حفظ الجملة وقولها بطريقتها الخاصة، وهذه الطريقة أكثر من نصف الوسط الفني يتعامل بها مع التمثيل، (يمكن الملاحظة والتعمُّق في هذا مع أداء سناء جميل مثلاً لأية شخصية وأداء شخصية مشابهة من قبلِ أية ممثلة أخرى)، وأنطوانيت هي من الصنف المتعامل مع التمثيل بطريقة الحفظ، ولا خلاف عليه لأنه ربما لم تُهيأ لها الظروف الفنية والحياتية والإخراجية؛ الاشتغال على الشخصية بطريقة مغايرة تنبع من الشخصية نفسها لأن هذا تخصص ثقافي وأكاديمي وإبداعي معاصر لم تعتده نجيب وجيلها إلا فيما ندر.

صدى الخارج السوريّ

إن العملية الفنية تعيش حالة مراحل، وهي غالباً تأسيسية ومن ثم إبداعية، ويندر أن تتحول التأسيسية إلى إبداعية بسرعة خارقة، وهذه الحالة مفهومة في كل المجالات، إلا لدى المغالطات الإعلامية التي تعتمد الانفعال العاطفي لا الرؤية التحليلية، ففي حالتيّ نجيب ولطفي؛ يمكن القول إنهما ممثلان من مرحلة التأسيس، وقد عايشا أنواعاً مختلفة من المخرجين في كل المجالات، وعلى اعتبار المخرج بالأساس هو قائد العملية الفنية وضابط إيقاعها، لذا فإن هذا الجيل قدم ومن ثم تشرّب تجارب إبداعية مختلفة جاءت من جيل لحق به، وبعضهم كان أقل خبرة ورؤية فنية منه، إلا أنها حالات تُعتبر أنها لم تضف إلى المؤسسين الشيء المهم، إن إبداعية أنطوانيت نجيب، ليست في أنها ممثلة بل لأنها إنسانة انتقمت من إقصائها بالعطاء والظهور حتى آخر لحظة في حياتها، وهذا ما لم ينتبه له بعض عشاق شتم المواقف السياسية، الذين أصروا على وضع الراحلة في خانة تصنيف سياسي، متجاهلين قيمتها الفنية، بغضّ النظر عن أي اصطفاف سياسي، أما إبداعية بسام لطفي ليس لأنه حنون وطيب القلب ومعطاء جسور، بل لأنه استمر مُتمسّكاً بحضوره الفني وفق المتاح له حتى يوم الرحيل.. وهذا بحد ذاته إبداع هام لا يتوجب على الجيل الجديد إغفاله وإغفال التعلم منه، لأن الانفعالات النفسية المدعية للحزن والألم، لن تعلمنا شيئاً ولن تجعلنا جيلاً يثق به الراحلان أنطوانيت نجيب وبسام لطفي، ليتركا الحالة الفنية أمانة بين يديه.

إعداد: أحمد السحّ