الحرب العالمية الرابعة

في يوم الرابع والعشرين من آب/ أغسطس 2022، يكون قد مضى ستة أشهر على نشوب الحرب في أوكرانيا، وقد بدأت هذه الحرب بالغزو الروسي لذلك البلد لتعلن موسكو بهذا الفعل عن محاولة انقلابية على نظام القطب الواحد الأميركي للعالم، هذا النظام الذي بدأ بعد هزيمة الكرملين أمام البيت الأبيض في الحرب الباردة والتي يرمز ويؤرخ لنهايتها مع سقوط جدار برلين في يوم 9 تشرين الثاني 1989، وقد كانت تلك الهزيمة السوفياتية سبباً في تفكك الاتحاد السوفياتي بعد عامين ولتكون روسيا إحدى مخلفات ذلك التفكك.

هنا، يمكن القول بأن يوم الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط 2022، هو بداية حقبة جديدة في العلاقات الدولية، بل يمكن المغامرة بالقول بأنه بداية حرب عالمية رابعة تنهي حقبة (ما بعد سقوط جدار برلين)، في تحقيب يقول بأن ما بعد الحربين العالميتين الأولى 1914-1918 والثانية 1939-1945 هناك حرب عالمية ثالثة هي الحرب الباردة بين العملاقين الأميركي والسوفياتي بدأت في يوم 12 آذار 1947 مع إعلان “مبدأ ترومان” من قبل الرئيس الأميركي هاري ترومان لمساعدة البلدان على مواجهة “الخطر الشيوعي” سواء كان بشكل “تمرد أقلية مسلحة” أو “تهديد خارجي” لبلد محدد، وقد كان إعلان الرئيس الأميركي ذاك بداية لمواجهة أميركية- سوفياتية كان العالم بأسره ميدانها إما من خلال حروب بالوكالة، مثل الحرب الكورية 1950-1953 أو الحرب الفيتنامية 1964-1975 أو حربي 1967 و1973 العربية – الإسرائيلية، أو من خلال سعي واشنطن أو موسكو من أجل إحداث انقلابات عسكرية داخلية في بلدان معينة لصالحها أو ضد الطرف الآخر في زمن الحرب الباردة (انقلابات عسكرية  أميركية في إيران 1953 وغواتيمالا 1954 والبرازيل 1964 وأندونيسيا 1965 وتشيلي 1973، وانقلابات عسكرية  لصالح السوفيات في إثيوبيا 1977 وأفغانستان 1978 واليمن الجنوبي 1978)، أو تشجيع ثورات لصالح أحد القطبين الأميركي (ثورة المجر 1956، وبولندا 1980-1981) أو السوفياتي (الثورة البرتغالية 1974-1975، وثورة الحركة الساندينية في نيكاراغوا التي وصلت للسلطة عام 1979). هذا من دون الإشارة إلى أن واشنطن وموسكو كادتا أن تتجابها بشكل مباشر في أزمتي الصواريخ السوفياتية في كوبا عام 1962 وفي أزمة الخرق الإسرائيلي للجبهة المصرية في الدفرسوار بحرب 1973، ومع الإشارة إلى أن المجابهة في الحرب الباردة كانت أيضاً ذات بعد أيديولوجي بين مشروعين أميركي رأسمالي ليبرالي  وسوفياتي اشتراكي ماركسي.

في هذا الإطار نلاحظ الفرق بين المجابهة الأميركية- الروسية الراهنة وبين مجابهتهما بعد أزمة القرم بعام 2014، حيث كان التوتر منخفضاً آنذاك، وكان هناك إطفائي ألماني- فرنسي أنتج اتفاقية مينسك بعام 2015 التي بردت التوتر ومنعت تفاقمه وإن كان لم يستطع حل الأزمة التي كانت بين كييف وموسكو وأيضاً بين الكرملين والبيت الأبيض، فيما هناك بفترة ما بعد يوم 24 شباط 2022 يوجد جبهة أميركية- بريطانية- أوروبية- يابانية متراصة ضد موسكو التي تصطف معها الصين شيئاً فشيئاً وخاصة منذ أيار الماضي مع ازدياد وتيرة التوتير الأميركي ضد بكين سواء عبر محاولة تكتيل دول جوار الصين أو معظمها ضدها أومن خلال زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي لتايوان التي كانت أقرب لتحرش أميركي سياسي توتيري مع الصينيين، حيث قاد التوتر في القارة الأوروبية إلى توتر في منطقة المحيط الهادئ- المحيط الهندي، كما يلاحظ هنا مقدار تصاعد التوتر الروسي – الأميركي في سوريا الذي ستكون أحد تعبيراته هي الضربة السياسية التي تتجهز موسكو لتوجيهها ضد واشنطن  من خلال مشروع روسي سياسي لتنفيذ القرار 2254 ولكن من دون مظلة الأمم المتحدة ومن دون ما كان سابقاً عندما تم إنتاج القرارات الدولية 2118 لعام 2013 والقرار 2254 لعام 2015 الخاصة بالأزمة السورية من خلال التوافق الأميركي- الروسي، ولا يعرف حتى الآن ما هو تصرف الأميركي تجاه تلك المبادرة الروسية التي يبدو أنها قد حصلت على دعم إيراني وتركي.

أيضاً أنتجت الحرب في أوكرانيا شرخاً أوروبياً- روسياً هو غير مسبوق منذ انفتاح روسيا على الغرب الأوروبي في أيام بطرس الأكبر 1682-1725، لاتوازيه كراهية اليساريين الأوروبيين ومنهم كارل ماركس للتدخلات العسكرية الروسية ضد الثورة المجرية بعام 1849، ولا كراهيات ورجفات اليمين الأوروبي من الثورة البلشفية بعام 1917 أو من قوة ستالين بعد الانتصار على هتلر عام 1945 وما أعقبه من تمدد سوفياتي لشرق ووسط أوروبا قال عنه تشرشل عام 1946 إنه “ستار حديدي أقامه ستالين يمتد بين بحري البلطيق والأدرياتيكي يقسم أوروبا إلى نصفين”.

وهذا الشرخ الأوروبي- الروسي ليس فقط ناتجاً عن خوف الأوروبي في النخب السياسية وعند أفراد المجتمع من تلويح بوتين بصنبور الغاز – النفط، بل وعن استخدامه الفعلي له بالستة أشهر الماضية، وإنما عن خوف الأوروبيين أساساً من أن ما اتبعه الزعيم الروسي ضد الأوكران عبر الغزو العسكري يمكن أن يتكرر كسيناريو في بقع جغرافية أوروبية أخرى. يمكن هنا، ملاحظة عالمية الحرب في أوكرانيا، ولو أنها تجري في بقعة محدودة جغرافياً وبشكل مواجهة مباشرة بين الروس والأوكران من الناحية العسكرية، من حيث أنها حرب غير مباشرة بين معسكر عالمي تتزعمه واشنطن يغذي كييف عسكرياً واقتصادياً ومعسكر مضاد روسي- صيني، وكذلك ملاحظة عالمية تأثيرها على الوضع الاقتصادي في مختلف أصقاع الأرض، كما يجب ملاحظة أن المفاوضات حول إحياء الاتفاق النووي الإيراني تجري على إيقاع ما يجري في أوكرانيا، سواء تم هذا الإحياء أم لم يتم، فخامنئي وبايدن يفكران بعالم ما بعد 24 شباط 2022 وهما يتفاوضان، كما يجب إضافة أن الحرب في أوكرانيا قد قادت إلى انزياحات أكثر في باكستان بعيداً عن الصين مع سقوط حكومة عمران خان وإلى انزياحات تركية باتجاه موسكو بعيداً أكثر عن واشنطن، فيما يبقى التردد الهندي بين المعسكرين المتصارعين ملفتاً ومثيراً للانتباه.

كتكثيف: سواء نجح فلاديمير بوتين في محاولة انقلاب 24 شباط 2022 المدعومة من الصين ضد نظام الأحادية القطبية الأميركية للعالم القائم منذ عام 1989، أم لم ينجح، وهو ما ستظهره المآلات القادمة للحرب في أوكرانيا، فإن عالم ما بعد يوم 24 شباط 2022 ليس كما العالم الذي كان قبله.