من بلادهم المُتعَبَة يبحرون متكئين على أحلامهم وشغف السؤال

بشار محرز عبود

تستمر رحلة البحث عن الأرض الجديدة، تلك التي سوف يؤسسون عليها أحلامهم وطموحاتهم وكشفهم عن أسئلتهم الكبرى.. ستظلُّ رحلة البحث هذه مستمرة إلى أن يصلوا إلى المكان المنشود، ليس مُهمّاً أن يصلوا إليه، لكن شغف البحث هو عجينتهم الأولى أينما حطّوا الرّحال ويستمرون به إلى ما لا نهاية، فيتسابقون ليركبوا سفناً جديدة مهاجرة نحو أرض لم تطأها أقدامهم من قبل.  

لم يكفّ السوري بأبعاده الشامية الكبرى، (فلسطين، لبنان، واليوم سوريا)، يوماً عن شغف المغامرة وألم البحث، فاتخذ من أنقاض مدنه المدمّرة، طريقاً جديداً على دروب جلجلة لم تنته ولا أفق واضحة لنهايتها.

انطلق بجسده المليء بالرغبة والاندفاع، إلى أمكنة قصيّة بحثاً عن أرض جديدة يعمّر فيها وِفاضَ روحه الوقّادة، انطلق إلى عوالم لا تحدّها جغرافيا، استعاد من دمار المدن التي نشأ فيها، حلمه الذي تمسك به علّه يتخلص معه من لعنة الخراب ولعنة الجغرافيا التي بلّلت أولى خطواته، فتوالت الهجرات من يمّ إلى برّ، ومن برّ إلى برّ، دون أن يترك مجالاً سوى لوصية واحدة وهي لا تستوحشوا طريق البحث وراء الحلم.

على سطح كل قارب يمخر عباب البحر، يحاول المهاجر السوري أن يتخلّص من تركةِ أزمانه، غير مُتهيّبٍ من الأمكنة الجديدة التي سيسكنها فهو يعرف جيداً كيف سيتابع منها حلمه الجديد.

في نهاية حكاية “حصان طروادة” القديمة، يضطّر الفارس الأمير “إينياس”، أن يهرب من مدينته التي عاث فيها اليونانيون خراباً وتدميراً وقتلاً، بعد أن اقتحموها بحصان الخديعة الخشبي الشهير، يضطّر إينياس أن يستقلّ سفينة على شاطئ البحر، ويرحل عليها إلى المجهول حتى يصل إلى سواحل إيطاليا، وفيها يبني بصمت وحزم صرح أُعجوبته العظيمة مدينة روما، ويُطوّبُ عليها أحد عظمائها الكبار.

وفي بلاد الشام أيضاً، بشرٌ تعلموا كيف يغربلون مهد الرسالة ومهد الحضارة، كلما ألمَّت بهم جائحة، تعلموا كيف يغربلون آلهتهم الواحدة تلو الأخرى، وتعلموا كيف يغربلون حتى أنفسهم وكيف يتخلصون من عقار الخوف، فينهضون كطائر الفينيق من بين الرماد، في بلاد الشام بشرٌ نفضوا أياديهم من السكون، هربوا كما إينياس ليس خوفاً وإنما بحثاً عن أرضٍ أُخرى؛ يعيدوا رسم صروحٍ لحضارة جديدة أكثر ألقاً وأكثر بهاءً.

عندما خاطب الإله السوري “بعل”، أجدادنا السوريين برسالته العظيمة قبل خمسة آلاف عام قبل الميلاد، “حطِّم سيفك وتناول معولك واتبعني.. لنزرع السلام والمحبة في كبد الأرض.. أنت سوري وسوريا مركز الأرض”، ظلّ وَقْعُ هذه الرسالة يتردّد صداه في جينات إنسان تلك الأرض، يتوارثها أبناؤها جيلاً إثر جيل، فلم يسمح أحفاد بعل لتلك البذرة أن تجفّ ولم يقبلوا حتى أن تستقر في كبدِ أرض واحدة، فجعلوا من رسالته طريقاً لهم نحو الرّيادة في كل أصقاع الأرض، يحملون بذارهم وهم في أشدّ حالات الدمار ألماً ليُعيدوا نثرها في أرحام بطون أراضٍ جديدة جيلاً إثر جيل.  

الدياسبورا” السورية، وكأنها أضحت جزءاً من تفاصيل دم أبناء المنطقة، فهي ليست وليدة لحظتها، وإنما عمرها من عمر التاريخ، حيث أثبت إنسان هذه الأرض، أنه قادر دوماً على تلمُّس أناه الوجودية، لأنه دائم الانشغال بالأسئلة الكبرى والبحث عن أجوبة لها، ولأن ذاكرته عميقة في كهوف جدران المعرفة، فحصد بجدارة لقب سيّد الرّيادتين الحضارية والسماوية بلا منازع، كيف لا؟! وهو من نشر بذورهما في جميع أصقاع المعمورة.  

كل من يحكم في بلاد الشام يعي تماماً أنه يتعامل مع بقعة من التاريخ والحضارة ومهد الإنسان المُتمدِّن، وكل من يتسيّد في هذه الأرض يعرف جيداً قدرة هذا الشعب على التجدُّد والانبعاث من بين الرّكام، فمهما حاول زعماء هذه المنطقة إيجاد عملية قطع مع هذا الميراث الغني، أو حاولوا “تشييء” الإنسان السوري، وجعله مجرد رقم لا قيمة له، ستأتي لحظة من الزمان تُخيّب ظنّهم وتُعلن الانفجار على الظلم والطغيان.

المخاض الذي نعيشه اليوم في عموم بلاد الشام، بالغ الأهمية، لأن شعب هذه المنطقة يخوض حرب إرادة ومعركة حياة قلّ نظيرها في تاريخ الشعوب، ويكفي لهذا المخاض فخراً أنه يكشف الغطاء عن أهم جانب في ماهية شخصية الإنسان السوري؛ بوصفه توّاقاً للحرية من أنظمة قمعية مستبدة وجائرة.

يكفي هذا المخاض ألقاً؛ أنه يكشف عن إنسان يتطلّع دوماً للبحث والاكتشاف والحلم وإعادة البناء إذا ضاقت به الجغرافيا، وإلاّ كيف نُفسِّر وجوده في جميع قارات العالم وفي كل اتجاهات الأرض، بحثاً عن أرض يبنيها، ومكان يعمّره، وفكراً يشارك فيه الحضارة البشرية جمعاء دون أن ينسى شذّاذ الأرض وهم يتوافدون إلى بلادهم ليعيثوا فيها خراباً ودماراً وقتلاً وتنكيلاً.

ابن بلاد الشام لا ينظر إلى نفسه إلا كواحد من أوائل مغامري العقل والحب والثورة، تلك المغامرة التي كانت ولا تزال ولّادة للسؤال.. ذاك السؤال الذي دفعه للتفكير والتمرّد والحرّية والكشف وتحطيم الثقافة الأبوية، فرغم كل ما فعلته الأنظمة المستبدّة من أجل إلغاء فكرة السؤال والمغامرة والحلم عند السوريين، كان غليان المعرفة والبحث والتاريخ التّليد، يعتمل في صدورهم، فحطّموا القيود وحطّموا الصنميّة، وساروا في درب لا يعود بهم إلى مربع الخوف ودائرة العزلة أو الرّهبة من متعة السؤال وسُهاد الحلم..

وكما دفع الحب أُمراء مدينة طروادة “باريس” و”هيكتور”، لخوض حربٍ دمّرت مدينتهم وشرّدت أهلها، ذات الحب يدفع الإنسان السوري لإشعال نيران ثورته رغم معرفته بأنه سيحترق بها، هي تلك الرغبة نفسها التي دعته للانتفاض والثورة في وجه الظلم والقهر، وهي ذات الرغبة التي جعلته يسعى للهجرة في أصقاع الأرض؛ بحثاً عن أرضٍ جديدة يفرد فيها جناحيه خارج قوقعة الظلم والظلام الدامس.   

هذه هي طبيعة الإنسان السوري المزدحم بالحب والاندفاع، هي ذات الطبيعة التي تدفعه ليركب اليوم سفناً ومراكب هشّة قد لا تصل إلاّ إلى المجهول، وأحياناً كثيرة تجرفه نحو أعماق البحار، فيكون مجرّد طعام لأسماكها، لكنه وهو المليء بحلمه، لا يتردّد في خوض غمار التجربة ولا يغفل عن طرح السؤال.

في بلادنا بشرٌ يختبرون اليوم، قدرتهم على محاربة الفقر وانعدام الأمان، في بلادنا اليوم يواجهون الأفق المسدود وسكينة اللاجدوى، في بلادنا أناس يختبرون لغز الله الأزلي كي يعيدوا إنتاجه بأفق أكثر عدلاً، وما طريق الجلجلة السورية الذي نعيشه منذ مطلع القرن الماضي وإلى الآن، إلا دليلاً على رغبة التحدي لا الانتقام، رغبة الحياة لا الموت، رغبة البناء لا الهدم، رغبة الفرح لا الحزن.

الآن وبعد مضي أكثر من قرن على الدياسبورا السورية، وما يزيد عن 11 سنة من البراميل المتفجرة والدمار الجنوني والتقسيم، لا يحتفل إنسان هذه الأرض سوى بعبء الرسالة وثقلها، لا يفرح إلا في حمله المِعول وزرع المحبة في كبد الأرض تيمّناً بإلهه بعل، ومن لم يتمكّن من هذا الزرع هناك، هاجر ليزرع المحبة في كبد أرض أخرى بعيدة وقصيّة، رحل بهذه القصديّة العليا ممهّداً للأنا الرحبة التي تتسع لها الأرض قبل السماء.  

في بلادنا يجد الناس دائماً منفذهم إلى الأمل، في الشارع والحقل، في السفينة والبحر، وفي طرق الجبال العالية والوعرة، في بلادنا أُناس محكومون بالعمل حتى الاستغاثة، شعب يصرخ بوجه العالم، نحن قومٌ يجتاحنا الحنين دوماً إلى البناء، نَحِنُّ دوماً إلى إنعاش الأرض بالثمر.   

كيف تنسى شعوب منطقتنا ما أسّسه أجدادها على شواطئ أنهار الفرات والعاصي والأردن وفي سهول المدن، من معالم أضحت أساساً لحضارة تغرف منها مدن الكون أجمع؟ كيف تنسى هذه الشعوب حضاراتها الغارقة في حبر التاريخ، وممالكها (ماري، إيبلا، أوغاريت، الفينيقيون، الآراميون، والكنعانيون…)، التي ما فتئت تعجّ بكل ثمرات الأرض وخيراتها التي صدّرتها إلى جهات العالم الأربع، كيف ننسى من صنع المحراث قبل السيف، والحِرف قبل الحرائق؟  

السوريون هم المهاجرون الأوائل في التاريخ، هم أكثر من مجرد سكان جغرافيا واحدة، ومسكن واحد وشاطئ واحد، هم المغامرون الأوائل، ولذلك هم شريان التاريخ، الذي يُخبّئ في داخله كنوز الثقافة والحضارة والزراعة والمدنية حين يحتاجها الآخرون، فأينما كان هذا الإنسان المُثقل بكل الجراح؛ يكون ابناً للثقافة والحضارة والإنسان، يكون لغة للإيمان بمبادئه الراسخة في الحب والإعمار.

لم يكن السوري، خارج هذا المعنى في بحثه عن حريته سواءً داخل سوريا أو خارجها، لم يكن خارج نقطة التقاء الثقافات وتنوُّعها وغناها في بحثه الدائم عن مكان آمن يعمل فيه، هذه الروح لا تزال تطبع جبهة السوري، الذي يصغي إليها في حقيقته، أكثر مما يصغي لفكرة الثواب والعقاب وأكثر ما يصغي لفكرة الانتقام.

إنه صوت شعب حرّ، يركب الموج بجسد عاشق، بحثاً عن بارقة أمل، وأرض ليحييها، بعيداً عن الأفكار الجاهزة أو الرؤى الباردة التي لا حياة فيها، يخرج هذا الشعب نحو مراكب راسية تأخذه في رحلة طويلة عبر بحار صمّاء، قد تكون بوابة أمله، أو قد تصبح مقبرته، لكنه لن يتردّد في امتطائها.

على بوابات المرافئ التي يصلها، يجلس الإنسان السوري، بكل أبعاده إلى جانب سارية السفينة التي حملته من شواطئ بلدانه المُتعَبَة، يستمع لشدو النوارس، يتأمّل قبة السماء الزرقاء، ينظر إلى خفر السواحل، يقول لهم: أنا.. أنا .. جئتُكم من بلادٍ أرسلت لكم من قَبل معاولها، وجئناكم اليوم فقط لنزرع المحبة في كبد الأرض.