حوار دمشق مع القامشلي وأنقرة الخطوة الأولى والأخيرة للحل السوري

يُشير منطق التفكير الإيجابي البنّاء وفقاً لجميع الأُطر والمعايير السياسية للعلاقات الدولية، إلى أن العلاقات الثنائية بين الجارتين سوريا وتركيا، لا يمكن أن تستمر على وضعها الراهن للأبد، وتقضي مصلحة البلدين أن يعود التعاون والصداقة وتبادل المصالح لمنطقتين تتماهيان جغرافياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.

وما يمكن أن نُسمّيه “حالة الحرب” بين الدولتين، والتي كادت أن تنزلق إلى مواجهات مباشرة، لولا الدور الروسي، الذي تُرجم فيما بعد في مسار أستانا، حيث توقُّف إطلاق النار، وأُنشأت مناطق التهدئة، وأصبح من الممكن تفادي عواقب وخيمة كان من الممكن أن تُفضي إلى تدمير الدولة السورية.

لكن روسيا، وعلى الرغم من دور الوساطة الذي تلعبه ومحاولاتها المستمرة لترطيب العلاقات السورية – التركية على جميع الأصعدة، سعياً لتهيئة الأجواء لعودة العلاقات بين دمشق وأنقرة إلى وضعها الطبيعي، وعلى الرغم كذلك من قطع مسار كبير على طريق تحقيق هذا الهدف، والذي يمكّننا بثقة أن نقول إن إمكانية التقارب أصبحت قريبة جداً، إلا أنه لا يمكن لموسكو أن تخطو وحيدةً في هذا المسار، وهي تُدرك تماماً أن أي تطور، لا بدّ أن يسبقه خطوات عملية على الأرض، بمبادرة واضحة المعالم من القيادة في دمشق، والتي تحتاج إلى ذلك التقارب في العلاقة الثنائية بشكل مُلِّح، لأسباب عديدة، لعلّ أهمها وضع الشعب السوري، الذي لم يعد قادراً على تحمّل قدر أكبر من المعاناة، ومستويات أدنى من تردّي الأوضاع الاقتصادية، ناهيك عن وضع المُهجّرين واللاجئين على الحدود الشمالية الشرقية والغربية السورية – التركية، والتي تُحتِّم على صانع القرار؛ بدء حوار جِدّي مع المعارضة السورية، لحل كل هذه القضايا اليوم لا غداً، وبلا شك؛ لدى تركيا الكثير من الحلول للمساعدة في مواجهة هذه التحديات، لما سوف يعود جرّاء ذلك من مصلحة لجميع الأطراف.

تعلن تركيا عن عدم وجود شروط للحوار مع دمشق، تلك حقيقة؛  إلا أننا ندرك جميعاً ما الذي يحتاجه التقارُب مع تركيا من حديث مع المعارضة السورية، وحديث آخر أكثر دقة وحساسية بشأن القضية الكردية، وأعتقد أنه بعد مرور أكثر من عشر سنوات على اندلاع الحرب الأهلية، أصبح من الواضح والمعروف للأطراف السورية ما يجب عليهم جميعاً القيام به لإنقاذ بلادهم، وتخفيف معاناة شعبهم.

لا سيما أن مسؤولية الخطوة الأولى، أُكرّر، تقع على عاتق النظام، المعترف به دولياً بصفته المُمثّل الشرعي الوحيد عن الدولة السورية والشعب السوري، وكُلّي يقين من أن تركيا، ستتجاوب مع مثل هذه الخطوة، وإذا تطلّب الأمر لقاءً بين الرئيسين، فسوف ينعقد هذا اللقاء بكل تأكيد.

لكن، وفي الوقت نفسه، فلا أساس لصحة ما يتم تداوله من أنباء عن ترتيب لقاء بين الرئيس السوري، بشار الأسد، والتركي، رجب طيب أردوغان، في شنغهاي. ولا أعتقد أن يتمّ عقد لقاء على هذا المستوى، قبل أن يقوم النظام في دمشق بمبادرة فعلية وجدية من أجل حوار واقعي وبنّاء مع المعارضة، وبحث دور الفصائل المسلحة المعارضة في الشمال، والدور الذي سوف تشارك به في عملية الانتقال السلمي السياسي في سوريا على أساس قرار مجلس الأمن رقم 2254.

إلا أن ما يُثير القلق حقاً، هو ذلك الفرق الذي لمحته بين تصريحات وزيري الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، والسوري، فيصل المقداد، خلال المؤتمر الصحفي المنعقد يوم أمس الثلاثاء، 24 آب/أغسطس، حيث بدا لافروف واضحاً، ومُحدِّداً في خطابه بالتأكيد على الاستناد في حلّ الأزمة السورية إلى الحوار، وعلى تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، وهو ما كرّره في أكثر من موضع، مُشيراً إلى دور مجموعة أستانا، لترتيب ذلك الحوار بين النظام والمعارضة، ووفد المجتمع المدني، في إطار اللجنة الدستورية، ودعم جهود هيئة الأمم المتحدة، والممثل الأممي، غير بيدرسن.

في الوقت ذاته، تحدّث المقداد، فقط عن الخطوات المطلوبة من الجانب التركي، والاستحقاقات بشأن سيادة الدول، وإنهاء الاحتلال، والتوقُّف عن دعم الإرهاب، وعدم التدخُّل في شؤون الدول، وهو أمر لا شك واضح ومفهوم ولا جِدال حوله، إلا أن تلك القضايا، يجب أن ترتبط وبشكل أساسي مع قضية الحوار السوري – السوري، فلا تقتصر الأزمة السورية كما بدا من حديث المقداد على “محاربة الإرهاب”، و”حمل السلاح خارج القانون”، وكأن التاريخ قد عاد بسوريا إلى ما قبل 2011، بينما نتحدث عن عشر سنوات من “مجرد حوادث إرهابية”، و”حمل للسلاح خارج القانون”.

يعني ذلك، مع الأسف الشديد، وفيما يبدو من التصريحات، أن القيادة في دمشق لم تنضج بشكل جدّي للمشاركة بحلّ سياسي منطقي وواقعي، يضمّ جميع أطياف الشعب السوري، كما ينصّ القرار رقم 2254، وهو ما يُلقي بحملٍ إضافي على مجموعة أستانا، وعلى الممثل الأممي بيدرسن، وعلى الشعب السوري الذي لا زلنا ندور في نفس الدوائر المفرغة؛ سعياً لإنقاذه من المعاناة والجوع والفقر والتشرُّد واللجوء، بينما يُحدِّثُنا ممثلو دمشق عن الوضع الداخلي “المستقرّ” والذي لا ينقصه سوى التخلُّص من الاحتلال التركي والأميركي ووقف الضربات الإسرائيلية، وليس ذلك سوى سمّ في العسل.

يجب قطعاً أن نتفق جميعاً مع خروج القوات الأجنبية من جميع الأراضي السورية، ووقف الانتهاكات الإسرائيلية، تحقيقاً لسيادة الدولة السورية، ووحدة أراضيها، إلا أنه؛ وكشرط لذلك يجب البدء بعملية الانتقال السلمي، والشروع في حوار جِدّي مع المعارضة، حتى يتسنّى للمعارضة العودة وبشكلٍ آمن إلى الحياة السياسية، في ظلّ دستور يحمي الجميع، وفوقهم يحمي الشعب السوري، والدولة السورية ذات السيادة.

وبخصوص الشأن الكردي، وما يتمّ تداوله مؤخراً في وسائل الإعلام، أودُّ أن أوضِّح في هذا المقام أن بعض النفوس الخبيثة، من هواة الاصطياد في الماء العكر، يسعون لخلق بيئة مزعجة تبقى فيها الأوضاع كما هي عليه، حيث يستفيدون من تلك الأوضاع المتوتِّرة، ويُحققون مصالح شخصية ضيقة سواءً سياسية أو حتى مادية لا سمح الله، مستخدمين في ذلك القضية الكردية، والتوتُّر السائد في مناطق الوجود الكردي، لتحقيق مآربهم.

وأقول هنا إن الوضع يتطلَّب حواراً عاجلاً ما بين دمشق والكُرد، وتحديداً “مسد”، ولا يجب أن تتغاضى الأطراف، بأي شكل من الأشكال، عما قدّمته القوات الكردية المسلحة لمحاربة التنظيمات الإرهابية والقضاء عليها، وراح ضحية تلك العمليات الآلاف من خيرة شباب “مسد” و”قسد”، وذلك بالإضافة إلى حق الكُرد الشرعي في المطالبة بحقوقهم الثقافية والاجتماعية، واعتماد لغتهم القومية في إطار إدارة ذاتية يعتمدها التعديل السوري، دون أن يمسّ ذلك بوحدة الأراضي السورية، أو بسيادة دمشق على أراضيها.

بهذا الصّدد، أُؤكد على عدم وجود انفصاليين في “مسد” و”قسد”، سوى بعض المُتطرِّفين هنا وهناك، إلا أنهم لا يُمثِّلون تياراً أو توجُّهاً يمكن أن يؤثِّر على إمكانية الحوار مع دمشق. وحتى ذلك التطرُّف إنما نابع عن المعاناة والتضحيات التي قدموها في محاربة الإرهابيين، والاضطّهاد الذي عانوا منه لعقود، وخوفهم من تكرار ذلك.

ولا أشكُّ للحظة، في أن بعض التصريحات المُفبركة التي تُنسب لبعض القيادات الكردية، وأعني هنا ما نُسب مؤخراً لصالح مسلم، بشأن خِداع الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والنظام، واستعداد الكُرد للانسحاب من الشريط الحدودي باتجاه الرقة ودير الزور، هي تحديداً ما أعنيه بالصّيد في الماء العكر، لأنني أعرف صالح مسلم جيداً، ودائماً ما اتّسمت اللقاءات معه بالصدق والصراحة، ولا يمكنه أن يُطلق مثل هذا التصريح في حق روسيا، التي تسعى دائماً  للإبقاء على قنوات اتصال مفتوحة ومُستمرّة بين روسيا و”مسد”، كما تقوم بجهود وساطة للتفاهم بين القيادة في دمشق وقيادات “مسد”، في الشمال الشرقي لسوريا، ولأكون أكثر صراحة، فهناك بالفعل من يسعى إلى هدف مُعيّن من خلال تحريف تصريحات الشخصيات الكردية المسؤولة والمُؤثِّرة.

وفيما يخصّ الشأن الكردي، أودُّ التأكيد على أن الكرد السوريون، لا يُشكِّلون أي خطر على وحدة الأراضي السورية، وأرفض بشدة جميع الاتهامات التي توجّه لهم بالاستسلام، أو الاعتماد على التواجد العسكري الأميركي في الشمال السوري، أو نهب النفط السوري، وقد شاركتُ شخصياً في عدد من المباحثات التي جرت قبل أن يقبل الكُرد في شمال شرقي سوريا، المساعدة العسكرية الأميركية لمحاربة التنظيمات الإرهابية، وأقولها بكل صراحة، إن الظروف حينها وحدها هي ما اضطرّتهم إلى اللجوء إلى ذلك، بعد أن انقطعت بهم السبل، ولم يعد أمامهم من خيار آخر سوى ذلك.

اليوم، لم يعد الكُرد رهينة للولايات المتحدة الأميركية، كما يحاول البعض تصويرهم، وأُكرّر رفضي للاتّهامات بـ “سرقة” النفط السوري، حيث أن القيادات الكردية توفِّر معيشة ما يُقارب 2.5 مليون مواطن سوري، وهي أمور يجب أن تضعها القيادات في دمشق في الحسبان، وأن تُبادر بالتعامل الجِدّي فيما يخص الشأن الكردي، وربما يدعو ذلك إلى الدهشة، إلا أنني لمستُ خلال أحد لقاءاتي بمسؤول تركي رفيع، أن تركيا تتفهّم ذلك، وأنها لن تقوم بعمل عسكري ضد الكرد.