رغم مرور نحو أسبوعين على تصريحات أردوغان المثيرة والانقلابية بشأن الأزمة السورية، ومن قبل تصريحات وزير خارجيته تشاويش أوغلو، وهي تصريحات تتلخص باستعداد تركيا لطي صفحة العقد الماضي مع دمشق، والبدء بصفحة جديدة معها، والعمل للعودة إلى مرحلة ما قبل العام 2011 في العلاقات بين البلدين … رغم مرور كل هذا الوقت، إلا أن واشنطن إلتزمت الصمت الكامل حتى الآن، وهو صمت يطرح مجموعة كبيرة من التساؤلات عن الموقف الأميركي وحساباته، وعلاقة هذا الصمت بموقع تركيا ودورها في الأزمة الروسية – الأوكرانية.
من دون شك، تتابع الإدارة الأميركية كل حيثيات الإستدارة التركية نحو دمشق التي التزمت الصمت أيضا إزاء التصريحات التركية، ولعل تريث واشنطن هنا له علاقة بحرصها على عدم خسارة تركيا – أردوغان التي ذهبت بعيداً في علاقاتها بكل من موسكو وطهران، خاصة أن أنقرة بالتوازي مع ذهابها نحو العاصمتين تصعد ضد واشنطن، حيث كانت تصريحات أردوغان عقب عودته من قمة طهران الثلاثية مطلع الشهر الجاري لافته، عندما طالب الإدارة الأميركية بسحب قواتها من شرقي الفرات، متهماً إياها بدعم الجماعات الإرهابية في إشارة إلى قسد، الحليف الأساسي للتحالف الدولي في الحرب ضد داعش.
وعليه كيف يمكن فهم الصمت الأميركي خاصة أن الإستدارة التركية تنتاقض مع قانون قيصر الأميركي الذي يفرض عقوبات على الدول والمؤسسات التي تخرق العقوبات المفروضة على النظام السوري؟ في الوقوف عند الصمت الأميركي ينبغي التوقف عند ما يلي:
1- إن واشنطن التي تراقب عن كثب الإستدارة التركية نحو دمشق، تدرك جيداً حجم العقبات التي تعترض إعادة الدفء إلى العلاقات بين الجانبين بعد الخراب الذي أصابها بفعل التدخل التركي في الأزمة السورية، وعليه لن تتحرك واشنطن وتطلق تصريحات مضادة خلال هذه الفترة، خاصة أن هذه التصريحات قد تخلق ردوداً عكسية لدى أردوغان الذي يجيد المعارك الشخصية، لاسيما في هذه المرحلة الحساسة حيث أردوغان بحاجة إلى بطولات شخصية من نوع معاداة الإمبريالية، ومواجهة مؤامرت تقسيم المنطقة، بغية زيادة شعبيته في الداخل قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة. 2- إن التصريحات التركية هي مازالت مجرد تصريحات إعلامية، وهي للإعلام والداخل التركيين أكثر من أنها حقيقة ملموسة قاربت تطبيع العلاقات مع دمشق والذهاب معها إلى تفاهمات، خاصة أن التصعيد على الأرض في الشمال السوري مازال سيد الموقف، وعليه تجد الإدارة الأميركية أنه من الأفضل الانتظار لمعرفة ما سيجري بدلاً من إطلاق تصريحات مضادة بخصوص الاستدارة التركية.
3- انطلاقاً من تجربة الإمارات والأردن بخصوص الانفتاح على دمشق، ثمة من يرى أن الإدارة الأميركية لن تذهب بعيداً في معاداة الاستدارة التركية، ولعل في أفضل حال، قد تكتفي الإدارة الأميركية، وتحديداً وزارة خارجيتها بتصريحات منتقدة ومهددة لن تقدم أو تؤخر شيء في معادلة الانتفاح كما حصل مع أبو ظبي وعمان.
4- إن الإدارة الأميركية غير صامتة، وإنما تعمل بذكاء عبر إرسال رسائل سياسية ودبلوماسية وأمنية من مناطق مختلفة إلى تركيا لوقف استدارتها نحو المحور الروسي – الإيراني – السوري (دمشق)، ولعل من هذه الرسائل زيادة الدعم العسكري لليونان، وإقامة المزيد من القواعد العسكرية على أراضيها حيث المعني الأول بها تركيا، وكذلك إعلان قسد للمرة الأولى عن تتفيذ عمليات ضد المواقع العسكرية التركية التي تعتدي على شمال شرقي سوريا.
5- إن واشنطن التي تداري الاستدارة التركية مشغولة بأولوية الأزمة الروسية – الأوكرانية، وأنها ترى من الأهمية في هذه المرحلة لجم التقارب التركي مع روسيا، وفي هذا الإطار ينبغي النظر إلى التحذير الأميركي لتركيا مؤخراً من استخدام روسيا لها في تخطي العقوبات المفروضة عليها على خلفية الأزمة الأوكرانية، وعليه لن تخاطر في هذه المرحلة في فتح ملف الاستدارة التركية نحو دمشق انطلاقاً من حضور الحسابات الروسية في هذه الاستدارة، إذ أن فتح هذه الملف حاليا سيعقد من تعقيدات العلاقة الأميركية – التركية وهو ما سيصب في صالح روسيا وإيران.
في الواقع، رغم هذه النقاط التي قد تقف وراء الصمت الأميركي حتى الآن إزاء الاستدارة التركية، إلا أن لا أحد يضمن إلى أين سيمضي أردوغان في علاقته بدمشق، خاصة في ظل الحديث عن مساع روسية لترتيب لقاء بينه وبين الأسد على هامش قمة دول مجموعة شنغهاي منتصف الشهر المقبل، وهو لقاء إن حصل سيكون بمثابة ضربة كبيرة لحسابات واشنطن ولوجودها في سوريا ولمسار جنيف، في ظل مطالبة الطرفين بخروج القوات الأميركية من سوريا، كل طرف لحساباته الخاصة، النظام في إعادة سيطرته على هذه المنطقة، وأردوغان في وضع نهاية لتجربة الإدارة الذاتية هناك، بعد أن ربط هذه الإدارة بإقامة كيان كردي يهدد أمن تركيا في الداخل بحكم وجود قضية كردية هناك.
بين صمت دمشق الذي هو تعبير عن الاستعداد للمفاوضات مع تركيا، وضجيج أردوغان الذي هو لتبرير استدارته، وتهيئة الداخل التركي لذلك، تبدو حسابات الصمت الأميركي خارج حركة الزمن الذي يريده أردوغان، فالأخير يريد الوصول إلى الانتخابات المقبلة على ظهر السفينة السورية المحملة بالأوجاع والألم واللاجئين، فيما واشنطن تريد إيصال أردوغان إلى هذه الانتخابات منهك القوى كي يلفظ أنفاسه السياسية هناك، فهل ستواصل واشنطن صمتها إزاء استدارة أردوغان، أم أنها تتنظر تطوراً مهماً من نوع لقاء بين أردوغان والأسد برعاية بوتين لتحول صمتها إلى فعل سياسي يوقف زمن أردوغان الذي بات يعاند حركة السفن الأميركية المتجهة شرقا نحو روسيا والصين؟