مرارة النزوح وفقدان الأحبة.. عائلة من سري كانيه عانت الأمرين من هجمات تركيا
تل تمر – نورث برس
بينما يتردد دوي قصف مدفعي للقوات التركية على القرى الشمالية لبلدة تل تمر شمالي الحسكة، يجول أحمد الهشي (75 عاماً) بخطوات بطيئة وهو يلف يديه خلف ظهره في بهو منزل لجأ إليه مؤخراً، بينما ينتابه القلق بأن تتجه الأوضاع نحو الأسوأ.
وفي قرية تل نصري جنوبي تل تمر، وصل الرجل الأربعيني منذ نحو شهرين برفقة أسرته التي تزيد عن 10 أفراد في محطة هي الثالثة التي ينزحون إليها منذ أن خرجوا من قريتهم السيباطية جنوبي سري كانيه (رأس العين)، قبل ثلاث سنوات عقب هجوم القوات التركية وفصائل المعارضة الموالية لها.

وتحت ظلال جدار المنزل الطيني متأكل الجدران، جلس “الهشي” الذي غزا الشيب لحيته على كرسي حديدي صغير يسرد قصته لـنورث برس.
مع بدء القوات التركية برفقة فصائل موالية لها، هجومها على سري كانيه وتل أبيض في تشرين الأول / أكتوبر 2019، لم يتخيل الرجل أن تصل رحى الحرب لقريته القريبة من الطريق الدولي M4.
إلا أن اشتداد الحرب ووصولها إلى مشارف القرية، أجبر العائلة على الخروج دون وجهة معينة مع سقوط القذائف بالقرب من القرية، قبل أن تقصد منطقة جبل عبدالعزيز لدى أقربائهم، دون أن يدركوا ما حل بمنزلهم والقرية.
فقدان شقيق
ويعود “الهشي” بذاكرته إلى الوراء ويتحدث عن لحظات نزوحهم مجبرين: “كانت لحظات مرعبة، القذائف كانت تسقط بالقرب من القرى المجاورة لنا، الجميع كان يهرب، لقد كانت مأساة حقيقية”.
وعلى مقربة منه، تجلس زوجته عنو عبيد (70 عاماً) على درج اسمنتي، روت بدورها لحظات النزوح، “خرجنا بإحدى سيارات سكان القرية، نزحنا بلباسنا دون أن نخرج غرض واحد معنا، كنا نعتقد أن الامر سيطول عدة أيام ونعود، لكن مضى أكثر من ثلاث سنوات”.
معاناة عائلة أحمد الهشي لم تقتصر على النزوح فقط، فبعد خروجهم من القرية بساعات حلت عليهم الصاعقة بنبأ مقتل شقيقه الصغير برصاص عناصر الفصائل الموالية لتركيا، عقب محاولته العودة لمنزلهم بهدف جلب بعض المستلزمات، دون درايته بأن المسلحين وصلوا للقرية.
وما زاد من وقع هذه الفاجعة الأليمة، عدم قدرة العائلة على جلب جثمانه الذي بقي مرمياً على الأرض بالقرب من دراجته النارية التي كان يستقلها.
وتقول “عبيد” عن ذلك، بينما تحاول حبس دموعها، “بحسب شهود عيان، بقي جثته مرمية على الأرض 19 يوماً دون أن يدفنه أحد، لنعلم بعدها بأن المسلحين قاموا بدفنه”.
وبعد المكوث لسبعة أشهر في منطقة جبل عبدالعزيز، لجأت العائلة إلى قرية الغيبش غربي بلدة تل تمر، بهدف البحث عن فرص عمل في ظل حالة الجفاف التي ضربت المنطقة، وعدم استطاعتهم على تربية الماشية التي تعتبر المصدر الرئيسي لدخل العائلة.
بينما قصد إبراهيم (60 عاماً) الشقيق الذي يصغر أحمد الهشي قرية السلماسة غربي البلدة، لكي يكون بمقدوره تأمين مرعى لبعض رؤوس الماشية التي يمتلكها، لتشتت بذلك العائلة في رحلة النزوح.
فقدان الشقيق الآخر
لم تكن قرية الغييش محطتهم الأخيرة، فبعد مضي عامين وفي ساعات متأخرة من الليل تعرضت القرية لقصف مدفعي عنيف من قبل القوات التركية قبل نحو شهرين من الآن، لتضطر العائلة على النزوح مجدداً.
وبمساعدة سكان المنطقة، قصدت الأسرة تل نصري وهي قرية أشورية تعج بالنازحين من ريف تل تمر ومنطقة سري كانيه، بينما سكانها الأصليين غادروها قبل 7 سنوات إلى خارج البلاد، بفعل هجمات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وبينما كانت عائلة أحمد تحاول طي صفحة الخيبات التي عاشتها، حتى صعق بفقدان شقيقه الآخر إبراهيم في التاسع من الشهر الجاري، نتيجة قصف للقوات التركية على قرية السلماسة.

وعلى وقع هذه المأساة المتلاحقة للعائلة، لا تزال حياة العائلة معرضة للخطر وخوض رحلة نزوح جديدة على وقع التصعيد التركي الأخير على منطقة تل تمر والتهديدات التركية المستمرة بعملية عسكرية جديدة.
وفي حيرة من آمره، يقول المسن السبعيني، “هذه ثالث مرة نغير مكاننا خلال فترة السنوات الثلاث الماضية، لا نعلم ماذا نفعل وإلى أين سنذهب في حال اتجهت الأوضاع إلى الأسوأّ!”
فيما لم تخفي زوجته مخاوفها من أصوات القصف التي تدوي في المنطقة ، وتضيف، “نخاف كثيراً من صوت القصف، وعندما يخرج أولادي للعمل وأسمع صوت القصف، قلبي يشعل ناراً عليهم وأخاف ألا يعودوا”.
“حياة النزوح صعبة”
وفي ظل الظروف المعيشية الصعبة، تعاني العائلة الأمرين في تأمين مصاريف المعيشية، لعدم وجود فرص عمل جيدة تدخل لهم مردود مادي جيد للعائلة الكبيرة.
وكانت عائلة الهشي تهتم بالزراعة وتربية الماشية قبل النزوح من القرية بينما لم يبقى لهم السبيل حالياً سوى القبول بالأمر الواقع الذي فرض عليهم.
وتقول الزوجة، التي بالكاد تقوى على القيام والجلوس، “وضعنا المادي حالياً سيء، أولادي يعملون في إحدى محطات الوقود وبالكاد يسد يومياتهم مصاريف المنزل”.
وضمن المنزل الذي بالكاد يسع أفراده ولا سيما أن أولاد “االهشي” الأربعة يقطنون معه مع زوجاتهم وأولادهم، تتحسر العائلة على منزلهم الذي لم يبقى منه شيئاً.
وتقول السيدة السبعينية بينما تنظر بحزن إلى أحفادها اللذين كانوا يلعبون بالقرب منها، “حياة النزوح صعبة، فكلما نرحل من مكان لآخر نموت ألف مرة”.
وبين الخوف من نزوح جديد وفقدان أحبتهم بفعل الهجمات التركية، إلا أن بريق الاشتياق لازال يلمع في عين العائلة بالعودة مجدداً إلى أرضهم يوماً ما.
وتختتم المسنة السبعينية حديثها، “أشتاق لمنزلي كثيراً، لو يخيروني بين كومة من الذهب ومنزلي فسأختار منزلي فنحن لا نرتاح إلى في منازلنا ونأمل العودة إليه مجدداً ذات يوم”.