دماء على العناقيد

أحاول أن أكتب بعيداً عن الراهن السياسي، حيث تعصف المصالح بالمبادئ، ويتم تبرير المكر والغدر تحت عنوان المصلحة العامة وإرادة الشعب، وتتشقلب التحالفات وتتناقض المواقف وتتزلزل الثوابت، ولكنني أجد نفسي مدفوعأً للكتابة في المأساة التي شهدتها بالأمس مدينة الباب الصابرة حيث سقط في سوق الخضار فيها أكثر من 17 ضحية من الأبرياء فيهم أطفال ونساء، واختلطت عناقيد العنب الأحمر بالدم البريء في مشهد يكسر القلب ويعيد إلى المربع الأول حيث كان خبر الموت يتكرر كل يوم والبلد يمضي للمجهول.

ولن أذهب في هذا المقال إلى مناقشة الدوافع السياسية والاعتبارات الاستراتيجية التي أدت لهذه الكارثة، فالمحللون السياسيون والاستراتيجيون باتوا أكثر من الهم على القلب وهم يطلون كل يوم عبر الشاشات المتوهجة والمظلمة على السواء، ويقدمون من التحليلات السياسية التي تستعصي على الفهم ولا يدركها إلا الأذكياء!.

لن أتحدث في السياسة ولكنني سأحاور العسكري الذي ضغط على الزناد، وهو ينفذ أمراً عسكرياً، وهو يعلم أن صواريخه ستذهب إلى سوق خضار يعمل فيه الغلابا والبسطاء، ولا أعتقد أن العسكري الذي أعد القصف الصاروخي الإجرامي لا يعلم ماذا يصنع، بل إنه خبير تماماً بما يصنع ويدرك الكارثة التي يرسلها للناس، ولكنه يبرر جريمته دوماً بتنفيذ الأوامر، والأبعاد العميقة للقيادة الرشيدة، وأن استخدام السيف في مكانه كاستخدام الندى في مكانه، فكلاهما ضروريان للحياة والعافية!.

ولكن هل يمكن لتبرير كهذا أن يعفي ضميره من جريمة القتل والتوحش؟.

إن الثقافة التي تجعل الإنسان محض آلة في يد الاستبداد هي ثقافة خطيرة وشريرة، وهي تبرر كل الفظائع تحت عنوان السمع والطاعة، باعتبارها سر قوة الجيش وهذا ما حفظناه منذ الطفولة: لما كانت قوة الجيش في نظامه اقتضى أن يحصل الرئيس على طاعة مرؤوسيه التامة وتنفيذهم للأوامر، وفي هذا السياق يشتهر الأمر العسكري بعبارة نفذ ثم اعترض!.

ولكن هذه الثقافة المزعومة الكافرة بالأخلاق والإنسان والموطئة للقتل بغير الحق لا تشكل أي عذر قانوني أو شرعي، وهي لم تعد لغة الدول المتحضرة ولا لغة الجيوش القوية، وبات التطور الإنساني يفرض على الجيوش قيماً أخرى في مبدأ السمع والطاعة، فقد تطور القانون الحقوقي الوطني والدولي، وباتت الأنظمة الإنسانية في العالم تمنح المقاتل حق الاشتراك أو الغياب عن الحرب إذا كان لا يؤمن بها لأي سبب، وبات من أوضح أشكال انتهاك حقوق الإنسان أن يساق المرء إلى حروب لا يؤمن بها وتكون مسؤوليته السمع والطاعة، وبات العالم اليوم أقرب من أي وقت مضى للاعتراف الكامل بحق الإنسان التمرد على الحرب الظالمة.

في القرآن الكريم يتعذر الذين ارتكبوا الجرائم بأنهم كانوا يفعلون ما يأمر به سادتهم وكبراؤهم، وقالوا ربنا إننا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً، ولكن اعتذارهم لن يكون مقبولاً في شيء وسيقادون للحساب بمنطق كل نفس بما كسبت رهينة.

كل الكبائر تحل عند الإكراه، فيشرب المسلم الخمر ويأكل الميتة ويترك الصلاة ويشرك بالله، وذلك كله يحل عند الاضطرار والإكراه، ولا يأثم في شيء من ذلك فإن الله رفع القلم عن الناس فيما استكرهوا عليه.

ولكن جريمة القتل لا تحل تحت أي ظرف ولو كان قهرا وجبرا وإرغاما، وحين تؤمر بالقتل تحت قاعدة اقتل أو تقتل، فإن الجواب في الدين والقانون والأخلاق والمروءة هو جواب واحد، وهو أن القتل جريمة مهما كان حجم الإكراه، وما أيسر أن يموت المرء شهيداً وهو بريء من دماء الناس على أن يمتد في عمره بضعة أيام وهو راتع في دم الناس، غارق في بؤس الجريمة وتوحشها.

ماذا لو التزم الناس هذه العقيدة الصارمة في حرمة الدم؟ فمن أين سيأتي الاستبداد بمن ينفذ مآربه، قناعتي أننا قريبون من نهاية الحروب بقدر قربنا من الإيمان بحرمة الدم، وحين يمتنع الشرفاء عن القتل ويخسرون وظائفهم فإن المستبد في النهاية لن يجد من يسعى إليه.

لقد كتبت هنا مقالات طويلة في مواجهة ثقافة العنف والتطرف التي تنشأ من قراءات غبية للنصوص الدينية، وتعودنا أن نشاهد المتطرف يتحدث عن جرائمه بحجج من نصوص الدين، التي اختارها له ماكرون أشرار يستغلون غباءه ليحولوه إلى قاتل مجرم ولكن باسم الرب والدين!.

ولكن يجب الاعتراف أيضاً بأن العنف ليس مقصوراً على أصحاب الخطاب التكفيري المتطرف، بل هو نتاج الاستبداد أيضاً، وليس بالضرورة أن يرتدي المتطرف دشداشة أفغانية، ويطلق لحية مبعثرة، بل قد يكون حليق الوجه ويرتدي بزة عسكرية أنيقة ويرتدي الكرافة الحمراء ولكن ثقافته تكفيرية متوحشة، ولا يؤمن بالروح الإنسانية البريئة ويتصرف كضبع متوحش.

وإذ أتحدث عن حرمة الدم وحرمة الإنسان، فإن الحكم لا يتغير أبداً سواء كان هذا اللون من القصف في عدو أو صديق، فالسلاح الذي يضرب في الأبرياء أعمى وآثم، سواء كان هؤلاء الأبرياء ينتمون إلى فريق وطني أو زائغ، فحرمة الدم أصل والسياسة متقلبة، ولا ثابت إلا كرامة الإنسان.

نعم.. يمكنك أن تعيش وتموت دون أن تلطخ يدك بدم بريء، ربما تفقد بعض المناصب والرتب ولكنك لن تفقد أبداً إنسانيتك وكرامتك.