في المقالة السابقة تحت العنوان ذاته قلنا إن الأحزاب السياسية هي أحد الأشكال الضرورية للوجود الاجتماعي، يعيش المجتمع بمختلف طبقاته وفئاته الاجتماعية من خلالها حياته السياسية. وبصفتها هذه فإنها تمتلك القدرة على تحديد خيارات المجتمع واستشراف مستقبله، سواء في المجال الاقتصادي أم السياسي أم الثقافي أم الاجتماعي. ولا يقل دورها أهمية أيضاً، في مجال التقدم الاجتماعي، وفي التأسيس الاقتصادي له، بدء من رسم السياسات الضرورية له، مروراً بتحديد أنماط الإنتاج الأكثر ملائمة، إلى تحديد العلاقات التوازنية بين الإنتاج والاستهلاك، بين التراكم والادخار، وصولاً إلى تحديد مؤشرات مستويات الحياة، ووتائر تطورها بالعلاقة مع وتائر التقدم الاجتماعي. بالإضافة إلى كل ذلك لا يمكن الاستغناء عن دور الحزب السياسي في تحديد السياسات الخارجية للدولة، وفي تحديد علاقاتها وروابطها الخارجية، في ضوء المصالح العليا للبلد، بعيداً عن أي مواقف أيديولوجية مسبقة.
باختصار، إن جميع المهام التي يطلع بها الحزب هي مهام سياسية أو ذات طابع سياسي، مما يعزز لدينا القناعة بضرورة الحزب السياسي، وليس الحزب الأيديولوجي. وإن الذي يحدد هوية الحزب السياسي هو برنامجه، وليس خلفيته الاجتماعية الطبقية، أو العقائد الأيديولوجية لمنتسبيه. بهذا المعنى فإن علاقة الحزب مع خلفيته الاجتماعية (الكتلة التاريخية) هي علاقة تشارك في الرؤى السياسية، وليست علاقة تمثيل أو إنابة، تلك المقولات التي تبين خطأوها نظرياً وسقطت بالتجربة التاريخية.
إن أي نظرة موضوعية على الحياة الحزبية الراهنة في سوريا، لا بد أن تبين أن أغلبية الأحزاب السياسية تنتمي إلى الماضي (أدوات قديمة..)، سواء ما كان منها في موقع السلطة، أم في موقع المعارضة. ولذلك فإن سوريا بحاجة ماسة إلى حزب وطني ديمقراطي يقطع مع الماضي بالمعنى الجدلي، أي بعد تمثل كل ما فيه من عبرٍ وإيجابيات، وما راكمته التجربة الموضوعية من خبرات.
في الآونة الأخيرة، وبصورة خاصة خلال الأزمة الراهنة، شهدت الساحة السياسية السورية ولادة العديد من الأحزاب والتجمعات والتكتلات والتيارات السياسية، وسوف تظل تشهد أشكالاً مختلفة للعمل السياسي في المستقبل. ومع أن هذه الظاهرة تعد إيجابية بصورة عامة فهي تعبر في وجه من وجوهها، عن بدء انتعاش الحياة السياسية في البلد، إلا أنها للأسف لم تقطع مع الماضي وبقيت أدوات قديمة غير قادرة على صنع أي جديد. سوريا بحاجة إلى حزب سياسي وطني جامع لكل أولئك المناضلين في سبيل الحرية والديمقراطية، والتقدم الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية. ولكي يكون خياراً سياسياً لكل أولئك، لا بد أن يكون نموذجاً في مجال حياته التنظيمية، وفي خطابه السياسي، وفي أسلوب عمله الجماعي الديمقراطي، سواء فيما يتعلق برسم سياساته، أم في طريقة إدارته لجملة علاقاته بمختلف أشكال الوجود الاجتماعي في المجتمع.
الحزب المنشود ينبغي أن يعمل على تعزيز لغة الحوار والشفافية ونبذ العقلية التكفيرية، واحترام المختلف، وشد أزر المتفق، والعمل على نشر ثقافة الحرية والديمقراطية، ثقافة المواطنة، والوطنية، وحقوق الإنسان، ثقافة القانون، في حياته الداخلية، وفي المجتمع، ليرقى بها إلى مستوى المعيار الحاسم في جميع مجالات حياته الداخلية والخارجية.
وكما ذكرنا في المقالة السابقة يجد الحزب المنشود خلفيته الاجتماعية في طيف واسع من الطبقات والفئات الاجتماعية يستثني منها البرجوازية البيروقراطية والبرجوازية الطفيلية والبرجوازية الكمبرادورية، وتعبيراتها السياسية.
إن برنامج الحزب المنشود في المرحلة الراهنة ينبغي أن يركز على خلق بيئة سياسية واجتماعية واقتصادية مناسبة لإعادة اعمار البلد وبصورة خاصة عليه ان يعمل على:
- أ- الانتقال من طراز الدولة الأمنية إلى طراز الدولة الديمقراطية وإعلاء مبادئ وقيم الحرية، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون.
- ب- ينبغي إعادة النظر في بناء الدولة وشكل الحكم بما يعزز من دور السلطات المحلية في كل شأن له علاقة بحياة المواطنين، وإنشاء مؤسسات لإنضاج القرار ودعمه.
- ت- ونظراً لأن التقدم الاجتماعي في ظروف التخلف لا يمكن تحقيقه بمعزل عن تحقيق العدالة الاجتماعية، لذلك ينبغي على الحزب المنشود أن يعمل على مسار التقدم الاجتماعي ومسار العدالة الاجتماعية بصورة متوازنة.
- ث- إن العدالة الاجتماعية المنشودة، في ظروف الرأسمالية، تتمثل في توزيع الناتج القومي حسب مساهمة عوامل الإنتاج في إنتاجه، والتوسع في الضمان الاجتماعي، وفي تعميم دور الرعاية الاجتماعية للطفولة، والمرأة، والشيخوخة، وإنشاء صناديق وطنية للإنفاق عليها.
- ج- إن فلسفة الحزب الاقتصادية ينبغي أن تقوم على أساس التعددية الاقتصادية، التي تمثل من حيث الجوهر نوعاً من التشاركية بين القطاع الخاص، والقطاع الحكومي، والقطاع التعاوني، وغيره من القطاعات الأخرى الممكنة. في ظروف التخلف لا يمكن الاستغناء عن دور الدولة الاقتصادي، سواء في مجال رسم السياسات الكلية، أم في مجال الرقابة، أم في مجال الاستثمار في البنية التحتية، أم في المشاريع الاستراتيجية والحيوية، على أن تمارس هذا الدور باحترام شديد للقوانين الاقتصادية الموضوعية، ولقواعد السوق، في ظل رقابة اجتماعية صارمة.