لم يعد صوت أردوغان يأتي هادراً يطالب برحيل الرئيس السوري بشار الأسد، ولم يعد يتعهد بالصلاة في الجامع الأموي في قلب دمشق القديمة، ولم يعد يتحدث عن الخطوط الحمراء الكثيرة التي رفعها طوال سنوات الأزمة السورية، بل بات يرسل رسائل علنية ولو عبر وزير خارجيته، يبدي فيها الاستعداد للتواصل مع الأسد، والجلوس معه، وإعادة العلاقة بينهما كما كان في السابق، يتحدث عن باب السياسة المفتوح، وعن المصالح المشتركة تحت عناوين وحدة الأراضي السورية، ومنع تقسيمها، ومكافحة الإرهاب، فيما يعرف الجميع أن نظامه هو أكثر من دعم الجماعات الإرهابية التي عاثت في سوريا قتلاً وتدميراً وخراباً وتقسيماً، حقاً إنه قائد بارع في صنع التحالفات والانقلابات معاً، والأغرب أن الذين دافعوا عن سياسته السابقة تجاه الأزمة السورية هم أنفسهم يبررون ما يقوم به اليوم.
في السياسة، ثمة من يتحدث عن تطورات ومتغيرات، تطورات تتعلق بتحول محاربة الكرد في شمال شرقي سوريا إلى أولوية وحيدة لحكومة أردوغان تجاه الأزمة السورية، ومتغيرات تتمثل في تحول بوتين إلى مرجعية مؤثرة في السياسة التركية تجاه الأزمة السورية بعد أن كان أردوغان يخاطب بوتين: ماذا تفعل طائراتك في سماء حدودنا غير قتل الأطفال؟ نعم كان ذلك قبل أستانا وسوتشي وما سمي بإتفاقيات مناطق حفض التصعيد، والصفقات المشتركة على تبادل مناطق السيطرة في الشمال السوري أو حتى في مناطق أخرى.
بانتظار أن يفيض نهر الفرات مجدداً بين أنقرة ودمشق سياسة ومصالح مشتركة على وقع هذه التطورات والمتغيرات، تتوجه الأنظار إلى ردود فعل الأوساط السورية التي راهنت على أردوغان لتحقيق أهدافها، واللافت أن هذه الردود تجلت على مستويين. مستوى الشارع الذي خرج رفضاً وغضباً من الانقلاب الأردوغاني عليهم، حيث كان مشهد حرق العلم التركي، والهجوم على المقار العسكرية التركية في بلدات ومناطق شمالي سوريا لافتا. ومستوى القادة السياسيين والعسكريين وتحديداً الائتلاف والجيش الوطني، إذ أن هذا المستوى بدا وكأنه يحاول التكيف مع الانقلاب الأردوغاني، وفاقد لخياراته الخاصة بعد أن ربط مصيره بيد تركيا، لكن انقسام الردود على هذين المستويين، وعلى هذا النحو، لا يقلل من حقيقة أن أردوغان وضعهم جميعاً في بازار صفقاته السياسية، ولما لا؟ فهو الذي تبنى دعم الوريغون باسم الإسلام ضد الصين، قبل أن ينقلب عليهم ويبيعهم لبكين مقابل صفقات تجارية ومالية ويبدأ بالتضييق على الوريغيين وتحويل البعض منهم إلى مرتزقة للقتال في حروبه! لما لا، وهو الذي دعم جماعات الإخوان المسلمين في مصر ودول الخليج العربي وأوحى لهم بإيصالهم إلى السلطة في هذه الدول قبل أن يعقد على رأسهم الصفقات مع هذه الدول من أجل مد حكومته بالمال لمواجهة الأزمة المالية الحادة التي تعاني منها! ولما لا، وهو الذي بدأ ببيع حركة حماس بالتقسيط لإسرائيل مقابل إعادة الدفء إلى العلاقة معها، لطالما اعتقد أن إسرائيل هي شريك تاريخي لها، ومفتاح لتحسين العلاقة التركية مع واشنطن! وانطلاقاً من كل ما سبق، ما الذي يمنع أردوغان من بيع رؤوس الذين سموا أنفسهم بالمعارضة السورية لدمشق ثمناً لقدومه إلى هناك من جديد وفتح المعابر الحدودية معها من أجل التجارة والتنسيق المشترك ضد قسد، كما قاله تشاويش أوغلو صراحة.
لقد استنفد أردوغان ورقة السوريين في بارزاته الكثيرة، وفي كل الاتجاهات، فقد استغلهم كامل الاستغلال في وجه أوروبا عندما فتح أبواب البحار أمامهم من أجل إجبار أوروبا على السكوت عن سياساته وحروبه وجرائمه هنا وهناك، فضلاً عن الحصول على مليارات الدولارات منها، كما استخدمهم كمرتزقة في حروبه الكثيرة هنا وهناك حتى بات هؤلاء رأس حربه في حروبه الخارجية، وهكذا تحول هؤلاء إلى مرتزقة بعد أن رفعوا شعارات الثورة والحرية، واليوم عندما استنفد ورقة هؤلاء بدأ يعرضهم للمساومة من أجل هندسة الداخل التركي استعداداً للانتخابات الرئاسية المقبلة. والسؤال هنا إلى متى سيراهن هؤلاء على أردوغان؟ قد يقول قائل إن أردوغان يبحث عن مصلحته ومصلحة بلاده، وأن لا أخلاق في السياسة، ومن المنطق نفسه يطرح السؤال عن مصلحة هؤلاء في البقاء بيادق لأجندة السياسة التركية بعد الانقلاب الأردوغاني عليهم ومحاولة عقد صفقة مع دمشق على رأسهم؟.