سلمان رشدي: مات الخميني وعاشت الفتوى

دمشق – نورث برس

في أثناء لقاء حواري كان يجريه هنري رايس، رئيس مجموعة “سيتي أوف أسايلوم”، صعد الشاب هادي مطر، وهو أميركي من أصول لبنانية، خشبة المسرح، منهالاً بالطعنات على الكاتب سلمان رشدي، ليصيبه إصابات بليغة في رأسه وعينيه وكبده.

أُدخل الكاتب المستشفى، ووضع في العناية المركزة متصلاً بأجهزة تنفس اصطناعي، تمكن من الاستغناء عنها لاحقاً، لكن، ووفقاً لمقربين منه سيستغرق شفاؤه زمناً طويلاً.

من هو سلمان رشدي؟

كاتب بريطاني وُلد في الهند، وقد عمل قبل بدء محنته في كتابة النصوص الإعلانية لإعلانات شركات الحلوى، الأمر الذي قد يبرر تصريحه اللاحق بأنه لم يتوقع موجة التسونامي التي أعقبت نشر روايته “آيات شيطانية”. عُرف عنه دماثة خلقه، وميله للدعابة.

آيات شيطانية

The Satanic Verses أو آيات شيطانية، هي عبارة عن قصة مكونة من تسعة فصول. شخصيتاها الرئيسيتان هما صلاح الدين جمجة وهو هندي عاش منذ شبابه في المملكة المتحدة وحاول أن ينسجم مع المجتمع الغربي متنكراً لأصوله الهندية، وجبريل فرشته وهو ممثل هندي متخصص بالأفلام الدينية حيث يمثل أدوار آلهة هندوسية، وقد فقد إيمانه بالدين بعد إصابته بمرض خطير حيث لم تنفعه دعواته شيئاً للشفاء. في بداية الرواية حيث يجلس الاثنان على مقعدين متجاورين في الطائرة المسافرة من بومبي إلى لندن ولكن الطائرة تنفجر وتسقط نتيجة عمل إرهابي، وأثناء سقوط هذين الشخصين تحصل تغييرات في هيئتهما فيتحول صلاح الدين جمجة إلى مخلوق شبيه بالشيطان وجبرائيل فرشته إلى مخلوق شبيه بالملاك.

تلقت الرواية مراجعات نقدية متباينة للغاية، ففي الغرب كانت ردود الفعل تجاهها إيجابية عموماً آنذاك، حتى اعتبرها الناقد هارود بلوم “أكبر إنجاز جمالي عند رشدي”، كما اعتبرها تيموني برايتون “أكثر الروايات المنشورة حتى الآن طموحاً في وصف تجربة المهاجرين إلى بريطانيا، وتلتقط حالة الضياع الشبيهة بالأحلام التي يعيشها المهاجرون” وهي بنظره دراسة لعزلة الغربة.

لم تلقَ الرواية استحسان الجميع في الغرب، فقد اعتبرها البعض تدخل ضمن إطار إهانة المقدسات التي لا يمكن تبريرها بحرية التعبير، ناهيك عما كان يحوم حول رشدي من شائعات.

مات الخميني وعاشت الفتوى!

صدرت رواية رشدي في السادس والعشرين من أيلول/ سبتمبر عام 1988، ولم تكن سوى تسعة أيام حتى بدأت رسائل التهديد تنهال على الدار التي نشرت الرواية، واجتاحت موجة عارمة من المظاهرات والاحتجاجات التي نددت بالرواية مدن العالم. شهدت هذه الاحتجاجات سقوط جرحى وقتلى.

ربما كان كل ذلك ليتوافق مع توقعات رشدي، الذي صرح في أحد لقاءاته أنه كان يتوقع مثل هذا الهجوم على الرواية، وأنه كان يستعد في مرحلة لاحقة للدفاع عن نفسه لكنه لم يكن يتوقع أن يستمر إلى هذا الحد. فإلى أي حد؟.

في الرابع عشر من شباط/ فبراير 1989 أصدر آية الله الخميني، المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية، فتوى بإهدار دم رشدي، ولم تقف الفتوى عند رشدي، بل تعدتها لتطالب بإهدار دم كل من يترجم أو يساعد على نشر الرواية. بعدها أُعلن عن مكافآت كثيرة في إيران وصلت إلى 3 ملايين دولار لمن يطبق فتوى الخميني، كما تلا ذلك قطع للعلاقات بين بريطانيا وإيران.

عاش رشدي بعدها متوارياً عن الأنظار في بريطانيا، مستخدماً اسماً مستعاراً “جوزيف أنتون”. ولم تُجدِه تصريحاته تارةً بالندم على نشر الرواية وأخرى بأنه يحترم الإسلام نفعاً، فقد بقي دمه مهدوراً وفق الفتوى التي أصدرها الخميني ولم يتراجع عنها خليفته المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي.

حرية التعبير في ظل الثورة الإسلامية في إيران

قد لا ترقى الرواية إلى التحفة الفنية التي يغالي في وصفها البعض، فقد استخدم فيها الكاتب خياله لإيصال فكرة التشتت التي يعيشها المهاجر من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، بما تحمل هذه الهجرة من انتقال من وسط تدور الحياة فيه حول مقدساته، بكل قبلاتها، إلى وسط تجاوز هذه المرحلة ولو جزئياً، وأصبح فيه انتقاد هذه المقدسات آمناً. الرواية تصف حالة تشتت مطلقة في المكان والزمان والمعتقدات، كما أعطى الكاتب لبطليه خلفيتين دينيتين مختلفتين، لمزيد من توصيف الحالة التي تسود موطنه الأصلي الهند.

كان صدور فتوى الخميني أمراً غير مستغرب، فانتصار الثورة الإسلامية في إيران كان نقطة تحول في تاريخ هذا البلد العريق، لتصبح ولاية الفقيه هي السلطة العليا، وتتراجع كل بوادر الانفتاح الثقافي والاقتصادي الذي كانت إيران قد بدأت تغذي الخطا في السير نحوه قبل الثورة.

تصدير للفتوى على أنها أمر إلهي

في العقد الذي تلا إصدار الفتوى، أعرب رشدي في أكثر من مناسبة عن أن ما تتبناه شخصيات الرواية لا يعبر عن آرائه الشخصية، إلا أنه بقي هدفاً للكثير من المتطرفين، وطالته الكثير من محاولات الاغتيال، وإحداها أتت من شاب بريطاني من أصول غينية. وقد بقيت الفتوى سارية المفعول بنفس الزخم في عهد خامنئي، الذي قال في إثر إحدى محاولات اعتذار رشدي: “حتى لو تاب وأصبح أكثر المسلمين ورعاً على ظهر الأرض، فلن يتغير هذا الحكم السماوي”.

ويُذكر أنه في بداية عهد الرئيس الإصلاحي سيد محمد خاتمي الذي بدأ يحث الخطا لإلغاء فتوى الخميني، في مساعيه للانفتاح نحو الغرب، طالب بالتوقيع على قرار بوقف سريان هذه الفتوى.

وفي ظل تواريه عن الأنظار، ومرافقته الدائمة من قبل حارس شخصي، لم يسلم الشركاء الأدبيون من محاولات الاغتيال، وقوفاً على نص فتوى الخميني. ففي تموز/ يوليو من عام 1991، طُعن المترجم الياباني هيتوشي إيغاراشي، أستاذ الثقافة الإسلامية في جامعة تسوبوكا اليابانية حتى الموت، وقبلها ببضعة أيام أُصيب مترجم إيطالي بجروح خطيرة على يد مهاجم وصف نفسه بالإيراني الباحث عن ترجمة للكتاب. وبعدها بعامين، أُصيب الناشر النرويجي ويليام بيجارد بجروح خطيرة لذات السبب.

تراجع عن تصريحات

بعد اليد التي مدها خاتمي نحو الغرب، تراجع سلمان رشدي عن تصريحاته التي حاول فيها استرضاء المتطرفين، واصفاً إياها بأكبر أخطاء حياته، كما وصف عمله الذي جر عليه كل هذه المصائب بأنه مكون مهم من بنيان أعماله.

بالطبع، لم تخرج محاولات خاتمي عن كونها محاولات توقفت مع تركه لسدة الرئاسة، وبقيت الفتوى سارية المفعول حتى الآن. وعاد خامنئي للمطالبة بإنهاء حياة رشدي وكشف مكان اختبائه، كما أُضيفت 600 ألف دولار للمكافأة المرصودة لمن ينفذ مضمون الفتوى، هذه الإضافة أتت من وسائل إعلام إيرانية، في دلالة فاضحة على المستوى الذي وصلت له هذه الوسائل من تبعية للمرشد الأعلى، والوضع الذي يُرثى له لحرية التعبير في تلك الزاوية من العالم.

إدانات

في سياق متصل بالحادثة، ولدى استطلاع رأي الروائي شادي لويس بالأمر، صرح بأن العلمانيين في معركتهم العادلة مع الأصوليين الدينيين يسقطون بنفس فخ الاستخدام لخطابهم، ومفرداتهم، فقد وصف بعضهم رشدي بالقديس متناولاً مواقفه البطولية الثابتة والصامدة، ومواقفه السياسية الثابتة من البداية إلى النهاية التي انتقد الغرب والفلكلور ووضع مجتمعاتنا الإسلامية والعربية وغيرها، كما أن هناك من يصف أي انتقاد لرشدي بغير اللائق، ويُوصم بالمحرض على الإرهاب، كما يُنهم أصحابه بالمحرضين على العنف وبالجاهلين تماماً بسلمان رشدي.

كما لفت لويس إلى تفاوت الآراء في أعمال رشدي، حيث يصف بعض النقاد البريطانيين شخصياته بأنها كاريكاتيرية تفتقر للعمق، والقدرة على التطور، ويراها بعضهم الآخر تقليداً ونسخاً عن حركة البوم الأميركية اللاتينية وواقعيتها السحرية. ويراه الكثير من أقرانه الهنود جاهلاً بالتاريخ والثقافة الهندية، لأنه رجل بريطاني في الحقيقة أكثر من كونه هندياً، وهو يقرأ التاريخ الهندي من منظور غربي.

كما ذكر بأن مما يؤخذ على رشدي ميله نحو اليمين مع انتقاله إلى الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن كان له موقف يساري قوي في بريطانيا مناهض لحرب الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية، كما أن موقفه كان مائعاً من الحرب في أفغانستان والعراق، بدا كتبريرٍ نقدي للاحتلال.

وقد أكد لويس إدانته لأي اعتداء أو تهديد على سلمان رشدي، كما أشار إلى ضرورة أن يكون متاحاً للعامة انتقاده بعيداً عن الاتهامات بالإرهاب أو التحريض على القتل، ودون تقديس أو تأليه.

إعداد: نجوى إبراهيم