لأسباب تاريخية مركبة، سياسية واقتصادية وأمنية، متراكمة منذ أواخر الخمسينيات، لم يعد في سوريا ليبرالية وليبراليون، إلا القليل للغاية. وهؤلاء القليلون المتبقون متمركزون حول مقولات وأدوات تفكير سياسية تعتني بـ”الرفض” و”النبذ” و”الخطاب الفوقي” أكثر من أي شيء آخر، بالذات أكثر من الانخراط المباشر والتفصيلي بالقضايا السياسية والمجتمعية السورية.
الليبراليون السوريون اليوم واضحون في رفضهم لسياسة وسلوك النظام السوري، كذلك يفعلون مع الإسلاميين واليساريين والفصائل المسلحة والقوميين العرب والإدارة الذاتية والتنظيمات الطائفية والزعمات المحلية، وكل شيء آخر على الأرض، ومستعدون للقول إن هؤلاء جميعاً “شيء واحد”، لا ينفعون ولا يُمكن أن ينتجوا شيئاً لصالح سوريا ومستقبلها، حسب رؤيتهم.
يفعل الليبراليون السوريون ذلك، دون أن يجهدوا ويجتهدوا في تقديم أي شيء ما آخر، كبدائل ذات قيمة ومضمون وقابلية للحياة على الأرض والواقع السوري الموضوعي، مختلف نوعياً عما تقدمه مجموع هذه القوى والتيارات السياسية والأيديولوجية.
نعم، ثمة خطاب ليبرالي ما، عن الديمقراطية والمدنية ودولة المواطنة وحقوق الإنسان في سوريا. لكنه فقط خطاب، فوقي ومُجرد، لا ينخرط في التفاصيل ولا يجهد في المبادرة الفعلية والتجريب والدخول إلى العالم الملموس على الأرض.
لأجل ذلك، فإن هذا الخطاب في المحصلة هو “لا شيء”، لأنه فقط خطاب مُجرد، يسعى جاهداً لأن يفر من ترسانة ضخمة من تفاصيل الأسئلة والقضايا، تلك التفاصيل التي من المفترض أن يستجيب لها ويوافيها أي خطاب ودعوة أو برنامج سياسي لأي حزب أو تيار أو شخصية سياسية.
يتحاشى الليبراليون السوريون تلك التفاصيل والولوج فيها، لأنهم يعرفون أن شيطان التفاصيل في بلد شديد الحساسية وأوضاع بالغة التركيب مثل سوريا، قد يصيب خطابهم المنمق والفوقي بالاختناق، يكشف عورة وسوء حصافة تلك الشعارات والأقوال المهذبة التي يصفصفها خطابهم.
قبل سنوات من الآن، وبعد سماعه لمداخلة مطولة من أهم “رموز الليبرالية السورية”، قُيض لكاتب هذه السطور أن يسأله عن تفصيل واحد من الحياة العامة السورية، شديد البساطة والموضوعية والصغر، ألا وهو: “ما الحل الذي يراه مناسباً مستقبلاً لمسألة عدة عشرات من (قُرى الغمر) التي فرضها النظام البعثي على الشريط الحدودي الشمالي في منطقة الجزيرة السورية قبل عدة عقود، كعملية لتغيير ديموغرافي مناهض للكرد، فيما لو أصبحت رئيساً لسوريا يوماً ما”!!.
تلعثم وقال أشياء غير مترابطة، لا تمت للموضوع بصلة، كانت فقط “اللا شيء”.
على أن منبع فيض الأحكام والشعارات وآليات التفكير المُجردة في بنية الليبرالية السورية، متأتٍ مما يحمله هؤلاء الليبراليون من “اعتداد مضخم بالذات”.
ففي خبيئة أنفسهم، يحملون اعتقاداً راديكالياً بعدم جدوى وحصافة كل ما عداهم، من أيديولوجيات وقوى سياسية، وحتى ثقافية وفكرية. يعتبروها جميعاً أشكالاً وأنماطاً من الوعي المُقيد، الذي لم يتح له أن يكون حُراً وطليقاً وصادقاً وذا رؤية، كما هُي الليبرالية فقط، حسب رأي الليبراليين السوريين.
ذلك “الاعتداد” الذي قد يبدأ من الخطاب ولا ينتهي بالفاعلية الموضوعية على الأرض.
إذ لا يكاد المرء أن يحصل على مساحة عمل سياسي وميداني واحدة، يشارك فيها الليبراليون السوريون إلى جانب غيرهم من الشخصيات والقوى السياسية السورية، التي قد تكون مختلفة نسبياً مع هذه القوى والشخصيات الليبرالية، لكن المتفقة معها في الجذور الأساسية للمسألة السورية، في مسائل مثل الحرية والديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان. لا يشيد الليبراليون السوريون أي شيء من ذلك مع أي طرف كان، لأنهم مؤمنون تماماً بأن الآخرين كلهم “قطعة واحدة”.
أيضاً، لا يخرج الليبراليون السوريون عن خطابهم المجرد والمتعالي، لأنهم أناس وتكوينات سياسية “طهرانية”. وحيث أن كل طهرانية تستميت في سبيل تغييب الواقع الحقيقي، لصالح ما هو متخيل في ذهنهم.
فخارج أي تجريد، على الليبراليين في بلد مثل سوريا أن يعترفوا بأنه ثمة طوائف وجماعات عرقية ونزعات مناطقية وزعامات محلية، يفوق نفوذها وحضورها وآلية تأثيرها على أي قوى سياسية أو أفكار ومقولات ومبادئ إيديولوجية، بالذات منها تلك الليبرالية المنمقة. فجميع هذه الوقائع الموضوعية على الأرض، إنما هي بالنسبة لليبرالية السورية مجرد ظرف مؤقت، والقائمون عليها أناس مصابون بلوثة ما، سيتغيرون يوماً ما، حينما يطالهم “النعيم الليبرالي”.
هذه الوقائع التي قد تقول في بلد مثل سوريا، إنه ثمة قضية طائفية كبرى في البلاد، وإلى جانبها أخرى قومية/كردية، وبينهما صراعات على هويات محلية، إسلام سياسي عنيف، وذاكرة مليئة بالدماء والكراهية، خصومات شبه خالدة بين المدن وأريافها، وخلاف جذري وشبه مطلق على شكل الدولة وموقعها من الصراعات الإقليمية. كل تلك القضايا التي يسعى الليبراليون لأن يدخلوا فيها ويحلوها دون أي “لوثة” قد تطالهم وتتهمهم يوماً ما بأنهم “ما كانوا ليبراليين تماماً في لحظة ما، حينما خاضوا في أحكام ونقاشات الطوائف والقوميات والمناطق والهويات”ّ!.
أخيراً، تفعل ليبراليتنا وليبراليون سوريون ذلك، لأنهم كسلى، يُعيدون شيئاً جربه من قبلهم اليساريون والقوميون وحتى الإسلاميون في منطقتنا، حينما أتوا بمجموعة من المقولات وأنماط التفكير من أمكان أخرى من العالم، وصاروا كثيري الولاء والتمركز حول تلك المقولات وآليات التفكير، بالذات أكثر من الولاء المفترض لمجتمعاتهم نفسها، وإمكانية التعامل وحل قضاياه حسب تلك المقولات وآليات التفكير التي أبدعتها مناطق أخرى من العالم.
ليس في كل هذا الذي قيل أي تناول لليبرالية كنزعة مجتمعية وفلسفية وسياسية عالمية تقليدية، بل عن مجموعة من الشخصيات والقوى السياسية السورية التي “تقول” إنها ليبرالية. بالضبط كما يكون الحديث دوماً عن اليساريين والقوميين والإسلاميين السوريين، منفصلاً تماماً عن أي تناول للماركسية والقومية والإسلام كدين، هذا الخلط الذي تفضله مختلف الجهات، بما في ذلك الليبراليين.