اللحظة الإيرانية الفاصلة

في يوم الاثنين الماضي، قدم جوزيب بوريل، مفوض الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، مسودة اتفاق لإحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 إلى الطرفين الأميركي والإيراني، بعد محادثات غير مباشرة توسط فيها بوريل متنقلاً بين فندقين أقام فيهما الوفدان في فيينا، وقد قال الوسيط الأوروبي لاحقاً الكلمات التالية، إنه “عرض الرزمة الكاملة الواحدة… لا تستطيع الموافقة على الصفحة كذا وترفض الصفحة كذا.. يجب عليك أن تقول نعم أولا”.

من خلال مؤشرات عديدة، يبدو أن واشنطن موافقة على المسودة، فيما هناك تسريبات إعلامية عبر مواقع إلكترونية قريبة من “مجلس الأمن القومي الأعلى” الإيراني، الذي هو المرجع الذي يقرر الموافقة عليه أو ينصح “المرشد” علي الخامنئي بالموافقة عليه أو لا، عن أن طهران تريد “تعديلات ولن تتعامل معه كنص نهائي”، وهناك تلميحات روسية باعتبار موسكو من موقعي اتفاق 2015 المسمى اتفاق “5+1″، تقول بأن “المفاوضات تستأنف عندما يحصل اعتراضات على النص”، الذي قال بوريل بأن الإجابة عليه هي فقط في حدود “أسابيع”.

هنا، يجب استذكار قول الرئيس الأميركي جو بايدن، أثناء زيارته لإسرائيل الشهر الماضي، عن “أننا لن نتفاوض مع إيران للأبد”، ويبدو أن هناك استعجالاً أميركياً للاتفاق، الذي بدأت محاولات إحيائه منذ شهر نيسان 2021 في فيينا مع جولة يتيمة في الدوحة، في ظل أزمة الطاقة العالمية عقب الحرب في أوكرانيا من حيث كون إيران قادرة على تقديم ملايين البراميل يومياً من النفط الجديد للسوق وهو ما يساعد على تخفيض الأسعار ما يؤثر على انتخابات الكونغرس الأميركي النصفية في تشرين الثاني القادم، ومن حيث أن هذا يحرم الرئيس الروسي من مليارات الدولارات التي تصب الآن في الخزينة الروسية منذ الارتفاع الكبير لأسعار النفط مع الحرب في أوكرانيا، هذا إذا لم نذكر أن إيران “متفًق معها غربياً” هي البديل الأقوى عن الغاز الروسي للاتحاد الأوروبي وهو تفكير كان موجوداً بقوة عند باراك أوباما عندما عقد اتفاق 2015 مع طهران، وعلى الأرجح أن تشجع فلاديمير بوتين على الوجود العسكري الروسي في سوريا منذ يوم 30 أيلول 2015 أي بعد شهرين ونصف من عقد اتفاق “5+1” هو في أحد أهدافه الرئيسية من أجل منع أن تكون سوريا معبراً لأنابيب الغاز الإيراني إلى أوروبا إضافة لمنع المشروع القطري القديم للغاز من أن يمر بالأراضي السورية عبر البحر أو عبر تركيا لأوروبا.

الآن، هناك لحظة إيرانية فاصلة، تتطلب قراراً استراتيجياً من القيادة في طهران. في هذا الصدد، يجب التذكر بكلام كمال خرازي، مستشار “المرشد” الإيراني لمحطة “الجزيرة” عقب أيام من زيارة بايدن للمنطقة، عن أن إيران قد “أصبحت دولة عتبة نووية”، مثلما كانت باكستان والتي عندما قامت الهند بتجربة نووية في الأسبوع الأخير من شهر أيار 1998 ردت عليها اسلام آباد بتجربة نووية مماثلة بعد أيام قليلة لتقول: “أننا نملك القدرة على صنع قنبلة نووية عندما نريد” ولكننا نقف “على العتبة من ذلك”، وهو ما يوحي بخيارات جديدة في طهران ستدرس بجدية بكل ما تعنيه هذه الخيارات من رفض المسودة الجديدة التي قدمها بوريل وبالتالي عدم العودة إلى إحياء الاتفاق النووي مع واشنطن، في وضع سيجعل إيران في وضعية كوريا الشمالية التي أعلنت قبل سنوات عبر تجربة نووية بأنها قد أصبحت دولة نووية من دون اتفاق، لا ضمني مثل إسرائيل وباكستان والهند، ولا صريح مثل باقي الدول النووية، وعلى الأرجح أن هناك أصواتاً في القيادة الإيرانية ترى أن هذا سيجعل طهران في وضع أقوى دولياً وإقليمياً من الوضعية التي سينتجها الاتفاق المقترح من بوريل والذي هناك مؤشرات كثيرة على أنه صناعة أميركية، ويبدو أن زيارة بوتين الأخيرة لطهران كانت من أجل تشجيع الإيرانيين على عدم توقيع الاتفاق في ظل اتجاه أميركي لمجابهة استراتيجية كبرى مع الروس والصينيين، ستكون فيها دول مثل إيران والهند وتركيا وجنوب أفريقيا أساسية في تحديد الكثير من تفاصيل التوازن الدولي في صراع ثالوث الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، اليابان ضد الثنائي الصيني- الروسي. ويمكن أن يكون هناك في طهران من سيقول بأن اللعب على صراع كهذا سيجعل طهران في وضع أقوى، ومن سيقول بأن توقيع اتفاق يجلب انفتاحاً اقتصادياً واجتماعياً على الغرب سيجعل غالبية في المجتمع الإيراني منجذبة بالنمط الحضاري الغربي، مما سيجعلها تتجه نحو الضغط من أجل نظام سياسي جديد متصالح مع الغرب الأميركي- الأوروبي، تماماً كما جرى في الاتحاد السوفياتي بعهد البيريسترويكا بالثمانينيات بعد سنوات قليلة من وفاة ليونيد بريجنيف الشيوعي المحافظ الذي عقد اتفاقيات التعايش السلمي مع واشنطن بالسبعينيات.

بالتأكيد، سيفكر الإيرانيون، وهم مخترعو الشطرنج وصانعي السجاد، بدقة في أي من الخيارين هو الأربح، وعلى الأرجح هم الآن أمام لحظة فاصلة لن يستطيعوا المناورة كثيراً أمامها للعب على الوقت، وهي بالتأكيد أصعب وأدق لحظة واجهتها القيادة الإيرانية منذ يوم 11 شباط 1979عندما وصل الخميني للسلطة في طهران. وهذا القرار الإيراني، سواء كان بقبول عرض بوريل أو برفضه، سيحدد مستقبل الشرق الأوسط وربما العالم.