سلمان رشدي.. فتاوى الموت! كيف يرانا العالم؟

وبعد مائة محاولة اغتيال قام أحدهم صباح أمس الجمعة بالتسلل إلى مسرح في نيويورك ووجه طعنات متعددة لسلمان رشدي قبل أن يبدأ بإلقاء محاضرة مقررة على المسرح، ولم يتضح مصير سلمان رشدي حتى كتابة هذه السطور.

سلمان رشدي كاتب بريطاني من أصول إيرانية أو هندية وقد مارس الكتابة بسخرية من التاريخ الإسلامي، وهو في ذلك واحد من مئات الكاتبين الذين يمتهنون الكتابة الساخرة، ويسخرون من كل مقدس، ولكنه لم يكن يحلم بواحد من المائة من الشهرة الطاغية التي حصل عليها حين قرر الخميني أن يهدر دمه وينقله على الفور إلى مصاف المشاهير من الأدباء العالميين الذين يواجهون سخط الإرهاب وتهديداته، ويطلبون تعاطف العالم مع كتاباتهم ورواياتهم.

ومع أن كثيراً من قرائنا لم يكونوا قد ولدوا حين صدرت هذه الفتوى، ولا يعرفون حجم تأثيرها الدولي، ولكن من المناسب أن نقرأ مرة أخرى نص هذه الفتوى كما أصدرها الخميني 1988:

“أعلن للمسلمين الغيارى في أنحاء العالم، بأن مؤلف كتاب (آيات شيطانية) الذي دوّن وطبع ووزع بهدف معاداة الإسلام والرسول والقرآن، وكذلك الناشرين المطلعين على فحوى الكتاب، يحكم عليهم بالإعدام. أطلب من المسلمين الغيارى المبادرة إلى إعدام هؤلاء على وجه السرعة أينما وجدوهم كي لا يجرؤ أحد بعد ذلك على الإساءة إلى مقدسات المسلمين، إن كل من يُقتل في هذا الطريق يعتبر شهيدًا إن شاء الله. وإذا كان بوسع أحد العثور على مؤلف الكتاب ولا يستطيع إعدامه، فليطلع الآخرين على مكانه لينال جزاء أعماله”.

لا يوجد خدمة نقدمها لخصوم الإسلام أكثر من هذه الخدمة، فنحن هنا نقدم بالمجان وثيقة اعتراف ممهورة بخاتم دولة رئيسية في العالم الإسلامي تأمر الناس أن يباشروا القتل، أو على الأقل أن يتحولوا إلى مخبرين شركاء في الجريمة، وبالطبع فالفتاوى ترافدت آنذاك بتأييد هذه الفتوى رغم الخلاف السني الشيعي المزمن، وبدا أننا لا نتفق على شيء إلا على تأييد العنف، وخرجت مظاهرات صاخبة في العالم الإسلامي وأوروبا تطالب بقتل الكاتب والناشر والمطبعة، دون أي اعتبارات قضائية أو محاكمات عادلة!.

ولست أدري كيف يمكن دعوة أمة بحالها أن تتحول إلى مشروع قاتل متوحش ضد الكلمة والمطبعة والناشر، ونمنح كل من هب ودب حق التحول إلى قاضي جنايات يحكم ويفصل وينفذ في قتل الكاتب والناشر والطابع ومن يشد على أيديهم في صورة من عبث القتل وفوضى الدم، ثم نتبرع بمنح الجنة لأولئك الذين يحاولون القتل ويفشلون فيه!.

وهكذا وجدت الحكومات الأوروبية نفسها مطالبة بحماية رعاياها من تحد خارجي تتبناه دولة عسكرية مسلحة يأمر فيه مرجعها الأعلى بقتل كاتب رواية وصاحب مطبعة ودار نشر وكل من يلوذ بهم لسبب لا يمكن على الإطلاق فهمه في الثقافة الأوروبية التي تأذن بقدر لا محدود من الحريات، ويقوم الناس هناك كل يوم بالسخرية من الحكام والملوك والأباطرة والأنبياء والملائكة، ولا يعادل الهجوم على النبي الكريم عشر ما يمارسونه كل يوم من الهجوم على المسيح وأمه وسائر الرسل والحواريين والقديسين.

وفي الثمانينات والتسعينات كانت هذه الفتوى محور العلاقات بين إيران والعالم، وكانت تملأ شاشات الأخبار في العالم أكثر مما تملؤها اليوم حكاية النووي الإيراني والاتفاق بين أمريكا وإيران، وقد استمر الحال كذلك أكثر من عشر سنوات إلى أن تمكن خاتمي من القول بان الفتوى لم تعد مطلباً إيرانياً، وأن إيران الرسمية لا تسعى لتطبيقها، وربما كانت هذه الفتوى الخجولة سبباً رئيساً في إنهاء خدماته كرئيس لإيران.

وليس الهدف بالطبع هذه الفتوى الطائشة بل الفتاوى التي تصدر اليوم والتي تتكرر اليوم بلغة أخرى ولكنها تستهدف الأمر نفسه وهو الهجوم على المختلف وهدر دمه وإباحة قتله، ومع أن القاتل شخص مغمور ولكن لا شك أن الحادثة كبيرة وسيكون لها انعكاسات كثيرة على المسلمين في العالم، فالقاتل واحد ولكن الشامتين والمهللين والمصفقين ألوف، وهم يملؤون سواد هذا العالم الأخضر، ويؤكدون للعالم أننا ما زلنا نهلل للقاتل ونفرح بالدم ونريد المزيد.

الصور التي يتم الترويج لها للبطل الشجاع القاتل هي دعوة مباشرة للجريمة، والمشاركون فيها شركاء في الجريمة، خاصة حين تكون الجريمة رداً على موقف فكري أو ثقافي مهما كانت درجة احتقارك لهذا اللون من الكتابة.

هذه الفتاوى والممارسات الهوجاء تقع في نقيض مباشر مع أساسيات كبرى في الدين الإسلامي، الذي نص على أنه لا إكراه في الدين، وخاطب النبي نفسه وما أرسلناك عليهم حفيظاً ولا وكيلاً ولا مسيطراً ولا حسيباً، وإن عليك إلا البلاغ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولكن ذلك كله لا يلتفت إليه للأسف، ويعود الناس للنخراط في حمى الغضب الماحق القائم على مبدا العداوة الأبدية بين الإسلام والعالم، والحرب الدائمة بين الإسلام والأديان، وهي قيم سوداء كرسها للأسف خطاب ديني سقيم لا صلة له بروح القرآن وجوهره.

بل إن النبي نفسه تعرض لكثير من السخرية والاستهزاء والتسخيف وقد شرح القرآن نفسه خطابهم المتكرر في وصفه بالساحر والمجنون والكذاب والمفتري وغير ذلك من الشتائم المهينة، ولكن لم يكن في القرآن الكريم في مواجهة هؤلاء المستهزئين إلا الصبر والتعالي والترفع عن المهاترة، إنا كفيناك المستهزئين، وفي موقف لافت تعمد بعضهم أن ينابزوه بالألقاب فصاروا يسمونه مذمماً ويشتمونه في كل مكان، وحين جاء صحابة غاضبون يشكون إلى الرسول ما صنعته قريش من تغيير اسمه وشتمه، وتوقعوا منه غضبة مضرية ماحقة ولكنه ابتسم جذلاناً وقال بمرح وذكاء: انظروا كيف صرف الله اسمي عنهم إنهم يشتمون مذمماً وأنا محمد!! ضحك.. وانتهت الحكاية.

لا أدري إلى أي نبي تنتمي هذه الممارسات المتوحشة التي تستمر عشرين عاماً في مطاردة كاتب ساخر، وتنتهي بطعنه أمام جمهور من الناس لا علاقة له بكل هذا الصراع، وحين يرتسم الدم على مسرح الفنون ويتم القبض على الجاني تتطوع جيوش من الغاضبين على السوشال ميديا للشماتة بالمقتول وتحية القاتل والمطالبة هل من مزيد؟؟.

لن تنتهي المشكلة عند هذا الحد، وهي مصيبة أخرى تضم إلى مصائبنا في تشويه صورة الإسلام، وجحود رسالته في الرحمة للعالمين، ولا شك أن الترويج الذي يلقاه الآن هذا القاتل على وسائل التواصل سيغري غيره من الراغبين بدخول الجنة عبر سكاكينهم، وستزداد ظاهرة الطعن التي شاعت في الأشهر الأخيرة، وهي ظاهرة جريمة عمياء تقتل للقتل ولا تستهدف شخصاً بعينه بل تبيح قتل العابرين صدفة في الطريق بدم بارد لاحتمال أنهم مؤيدون للاحتلال أو كافرون بالله.

إنها إعادة إشعال حمى الإسلاموفوبيا التي تعزز صعود اليمين المتطرف المعادي للإسلام، وتأتي بأشد الأحزاب كراهية للإسلام إلى سدة الحكم والسلطة، وهو موقف ينذر بالأسوأ والأشد قتامة وبؤساً، ولن يتوقف هذا التدهور الخطير إلا بموقف حازم ونهائي لكل فقهاء الدين يتبرؤون فيه من كل قتل، ويكفون عن تمجيد القتلة باسم الشهداء والأبطال والشجعان، ويعلنون للناس أن الدين له رأي واحد في القتل: من قتل نفساً بغير نفس .. فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.