في حاجة أردوغان للأسد عندما حوَّل شمال شرقي سوريا إلى حقل رماية

على وقع قمة سوتشي بين بوتين وأردوغان، حول الأخير شمال شرقي سوريا إلى حقل رماية للمسيرات التركية، فالأخيرة وبشكل هستيري باتت تقصف كل شيء، موقعة ضحايا وجرحى من عسكريين ومدنيين، أطفالاً وشيوخاً، نساءً ورجالاً، ضحايا في القصف التركي الذي يأخذ شكل الإبادة الجماعية، والتهجير القسري، على مرمى من القوات الأميركية والروسية في المنطقة، وكأن أردوغان يريد جرَّ “قسد” إلى مواجهة غير متكافئة بعد أن فشل في الحصول على ضوء أخضر من موسكو أو واشنطن للقيام بغزو عسكري جديد.

السُلَّم الذي وضعه بوتين لأردوغان للنزول من على الشجرة السورية التي صعد إليها، وجد أردوغان فيه مساراً يمكن السير فيه على إيقاع دبلوماسية القيصر، لطالما تخلى عن شعاراته المطالبة برحيل النظام، وحصر كل أهدافه بوأد الإدارة الذاتية، ولطالما تخلى عن خطوطه الحمراء من حماة إلى حلب، والأدهى أنه بات يرى في طرق باب دمشق طريقاً لترتيب هندسة الداخل التركي، تطلعاً إلى الفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وعليه بدأ يرسل رسالة تلو الأخرى إلى دمشق، من رسالة وزير خارجيته مولود تشاويش أوغلو عن استعداد أنقرة لدعم دمشق من أجل التحرك ضد قسد، إلى الرسالة التي سربتها الصحافة التركية عن استعداد لمكالمة هاتفية بين أردوغان والأسد، يرى أردوغان أن طرق باب دمشق سيحقق له جملة فؤائد استراتيجية تصب في الداخل التركي، ولما لا، فهو رجل التحالفات والانقلاب عليها ثم العودة إليها عند المصلحة، أليس هذا ما حصل عندما مارس كل العداء ضد حكومات مصر والإمارات والسعودية وإسرائيل، قبل أن يقدم على طرق بابها، ويقدم لها رأس جماعات الإخوان المسلمين ثمناً للانفتاح عليها؟ فما الذي يمنعه من تقديم رأس الائتلاف والجماعات المسلحة السورية إلى دمشق؟ بالتأكيد لا شيء، بل العكس تماماً قد يجد في الداخل والخارج من يساعده ويشجعه على ذلك.

ففي الداخل التركي، وتحديداً في أوساط المعارضة التركية، ومؤسسة الجيش، والأوساط الشعبية المكتوية بنار العنصرية والعداء للاجئين السوريين في تركيا، لا شيء يمنع كل هؤلاء من دعم أردوغان في خطواته نحو دمشق، بل إن زعيم المعارضة التركية كمال كليجدار أوغلو، سبقه في ذلك، عندما أعلن مراراً استعداده للذهاب إلى دمشق، والبحث معها عن خطة لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم خلال سنتين، وفي الخارج، يرى أردوغان دعماً ورعاية من موسكو وطهران وحتى دولاً عربية، لدفعه في السير في هذا الاتجاه، فيما أردوغان الذي لا يجد من التحالف الدولي ردعاً لوقف عدوانه على شمال شرقي سوريا، بات يتعامل مع هذا التحالف كعدو صامت على ممارسته لهذا العدوان.

في تطلع أردوغان إلى جعل العقد الماضي مجرد فاصل من سوء التفاهم مع دمشق رغم كل الدعم الذي قدمه للجماعات الإرهابية طوال العقد الماضي، تبدو دمشق مرتاحة جداً، وتراقب بدقة التهافت التركي عليها، وتدقق في حساباتها، وتحدد بوصلتها في اشتراط فتح باب المصالحة مع أنقرة بانسحاب تركيا من المناطق التي تحتلها في الشمال السوري، وتقديم رأس الائتلاف لها، دون أن يعني ما سبق أنها تتجاهل البعد الروسي الساعي إلى إحداث تغيير سياسي في بيئة الأزمة السورية، بما يؤدي إلى انتصار مسار أستانا على مسار جنيف، بل ودفن الأخير نهائياً لطالما أن رعاته مشغولون بالأزمة الروسية – الأوكرانية، وحديثاً بالأزمة الصينية – التايوانية، حيث معارك الطاقة تشغل الدبلوماسية الأوروبية ومن خلفها الأميركية، ولعل هذا ما يفسر تسريب دمشق عدم صحة الحديث التركي عن مكالمة بين أردوغان والأسد.

في الحديث عن احتمال تقارب بين دمشق وأنقرة يمكن أن يطوي صفحة الماضي ويفتح صفحة جديدة بينهما، ثمة حديث عن تشكيل لجنة من الخبراء لبحث قضايا الحدود والسياسة، لكن من الواضح أن أجندة الطرفين بعيدة عن التوافق، لطالما التصريحات التركية تتعامل مع الشمال السوري كشأن تركي داخلي وليس كشأن وطني سوري، فالحديث التركي عن إقامة منطقة آمنة داخل الأراضي السورية، وإسكان ملايين اللاجئين السوريين فيها، وإحداث تغيير ديمغرافي فيها، وإقامة حاجز بشري مرتبط بالسياسة والنفوذ التركيين لا يمكن أن يتوافق مع المصالح الوطنية السورية، فيما لا يبدو أردوغان مستعداً للتخلي عن هذه الأجندة، لطالما أن ذلك سيؤثر سلباً على استراتيجية في الداخل، لذلك يبدو أن مسار إعادة الدفء إلى العلاقات بين الجانبين مرهونة بتغيير سياسي داخلي تركي، قد لا يكون بوجود أردوغان، ولعل هذا ما تراهن عليه دمشق، بأن تكون الانتخابات الرئاسية التركية المقبلة النقطة الفاصلة في تحديد بوصلتها تجاه أنقرة، سواء بوجود أردوغان أو رحيله.

في الانتظار، تبدو معركة “قسد” مع الاستهداف التركي لها، معركة الصبر وتحمل الاعتداءات التركية، وليس الانجرار إلى مواجهة عسكرية يريدها أردوغان، كما أن معركتها في إدارة سياسية براغماتية تجيد الانفتاح على مراكز القوى الفاعلة والمؤثرة في الأزمة السورية، لدفع تركيا إلى الحد من اعتداءاتها، والالتزام بالاتفاقيات التي وقعتها مع موسكو وواشنطن عقب عملية نبع السلام، معركة صعبة في ظل أعداد الضحايا، وحجم التدمير، والخوف وعدم الاستقرار في مناطقها، لكنها في النهاية عناوين في معركة البقاء، وإدارة الصراع، ومواجهة العداء التركي الدفين القادم من عمق التاريخ، وامتداد الجغرافية، وقوة الهوية.