الهجوم على شمالي سوريا هدية بوتين لأردوغان!

كانت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تعلم في قرارة نفسها أن تعطيل سلاح الجوّ التركي أمر شبه مستحيل إبان الهجوم على رأس العين/سرى كانيه وتل أبيض أواخر عام 2019، وقتها طلبت قسد من واشنطن تحييد الطيران عن مجرى الحرب وتحدّثت عن “حرب عادلة”، بمعنى آخر أن تكون حرب فرسان، على ما تحويه تلك الدعوة من رومانسية وتسليمٍ بحتميّة الحرب والرغبة في الحد من نتائجها المفجعة لسكان شمال شرقي سوريا، ولعل المناشدات الأهلية اللاحقة والتماسات الإدارة الذاتية للقوى الدولية بفرض منطقة حظر طيران صبّت في مجملها في ذات الاتجاه.

لكن ما الذي جعل السماء مفتوحة أمام تركيا بعد أن أطبقت احتلالها لرأس العين وتل أبيض، ومن الذي يمنحها هذه الرخصة في إشغال سماء شمالي سوريا، وهل تشكل حرب المسيّرات بديلاً عن الهجوم البرّي؟.

من وجهة نظر بالغة التشاؤم يمكن القول بأن تركيا حازت الضوء الأخضر اللازم لشن حرب مسيّرات طويلة الأمد. الموافقة الأميركية تمثّلت بالصمت المديد عن إدخال المسيّرات في استراتيجية الحرب التركية ضد قسد وكرد سوريا، أما الرفض الذي أبدته واشنطن مطلع استخدام المسيّرات عام 2021 في شرقي الفرات تحوّل تدريجياً إلى قبول بالأمر الواقع التركي، وقد استتبع ذلك عدم اقتصار بنك الأهداف التركية على اختيار الأهداف العسكرية الخاصة بمقاتلي وقيادات قسد فحسب، بل إنه بلغ حدود ترويع المدنيين، ففي الأثناء أبدت المسيّرات التركية حرصاً على أن لا تميّز بين عسكريّ ومدنيّ، بين طفل وبالغ، بين نقاط عسكرية وتجمّعات مدنية، ريف أو مدينة، وهو ما يعني أن حرب المسيّرات ستطال الجميع دون تمييز، وكفيل بالتذكير ما فعلته مسيّرة تركية يوم السبت الفائت في حي الصناعة بالقامشلي وإقدامها على قتل أربعة أشخاص بينهم طفلان، فيما حصيلة الاستهدافات الجوية خلال العام الجاري ترتفع، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، إلى 51 وجرح 83 آخرين طبقاً لأرقام المرصد السوري.

أما ما يضاعف التشاؤم هو القبول الروسي بصيغة السماء المفتوحة أمام المسيّرات التركية، التي يبدو أنها حازت بدورها رخصة التحليق والرصد وحصد الأرواح خاصة بعد قمة بوتين – أردوغان في سوتشي الجمعة الماضية، والتي تمخّض عنها سلّة من الاتفاقات التجارية والاقتصادية، والأهم من ذلك هي تلك الخطوط العريضة المتمثّلة بالتفاهمات الأمنية في سوريا، ولعل عمليات القصف المدفعي وكثافة استخدام المسيّرات يُفسّر على ضوء التفاهمات التي حصلت في قمتي طهران الشهر الماضي، وسوتشي الأخيرة، أما آية ذلك فهي تصريحات الرئيس التركي التي باتت تحمل كل معاني التطبيع وإعادة العلاقات مع دمشق.

من مصلحة روسيا أن تقدّم نسغ الحياة لحكومة العدالة والتنمية التي تمرّ بأسوأ مراحل شعبيتها منذ العام 2002، ذلك أن وصول المعارضة لسدّة الحكم يعني في مقامٍ ما مراجعة سياسة أردوغان الأوراسية وارتفاع احتمالات العودة إلى حضن واشنطن والناتو، لذا تصبح مسألة مساعدة أنقرة اقتصادياً أولوية روسية للحفاظ على نظامٍ صديق يعاني أزمات اقتصادية عاصفة، من ذلك ما قدّمته موسكو من مساعدات خصّت بها قطاع الطاقة، إذ أصبح بوسع تركيا أن تكون هي المركز الإقليمي لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، بدلاً من أوكرانيا، عبر خط ساوث – ستريم أو ترك ستريم، وكذلك إزالة العقبات أمام تنفيذ إنشاء محطة الطاقة النووية “آق قيو” بولاية مرسين التركية، بعد أن كانت روسيا ألمحت بتأخير تسليم المفاعل مطلع العام المقبل وإصرار الرئيس التركي على ضرورة تسليم المرحلة الأولى حسب الاتفاق عام 2023 ،أي أن يكون التسليم قبل قليل من موعد الانتخابات التركية الحاسمة.

بدورها تقدّم حرب المسيّرات والقصف المدفعي التركي الذي بدأ يطاول المناطق الكردية في القامشلي وعامودا والدرباسية وتربسبيـه، خدمة لروسيا التي تسعى إلى دفع قسد والإدارة الذاتية لتقديم تنازلات كبيرة لدمشق، رغم أن تركيا صرّحت عبر وزير دفاعها، خلوصي آكار، أنها باتت في المرحلة الأخيرة من الإعداد للعملية العسكرية التي أعلن عنها أردوغان في أيار/مايو الماضي. بيد أن تنفيذ الهجوم معقود بدرجة أو أخرى على موافقة موسكو، والتي يبدو أنها قد توافق على ذلك ضمن صفقة تتضمن إعادة العلاقة بين أنقرة ودمشق، ورغم أنّه خيار مرّ بالنسبة لأردوغان إلّا أن طبيعة سياسته البراغماتية قد تدفعه إلى أبعد من ذلك، أي إلى حيث تسوية أوضاع المليشيات التابعة له وتسليم مناطق سيطرتها للنظام.

ورغم ما تعنيه حرب المسيّرات من ضرب لاستقرار مناطق الإدارة الذاتية، إلّا أنها لا تؤمّن لأردوغان الدعاية المطلوبة على المستوى الداخلي قياساً إلى العمليات البرّية، وهو ما يعلمه جيّداً الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين الذي قد يتحف نظيره التركي بمساحة حرب برية تعزّز حضوره الداخلي وتعيده إلى تصدّر المشهد الانتخابي، لكن هدية مثل هذه ينبغي أن يكون لها ثمن مقابل، والغالب على الظن أن الثمن سيكون تعاوناً أمنياً مع دمشق واعترافاً بنظامها وتخلياً عن دعم فصائل المعارضة المسلّحة، ويضاف إلى ذلك أن وعود إعادة اللاجئين التي قطعتها الحكومة للرأي العام التركي لن تتحقّق دون مساعدة دمشق، وهو في الأصل برنامج المعارضة التي قالت إن الطريق لإعادة اللاجئين يمرّ بتسوية الخلافات مع دمشق.

في واقع الأمر، ليس أمام أردوغان إلّا أن يقبل هدية بوتين، وليس أمام الأخير سوى مساعدة أردوغان في التغلّب على منافسيه، وأما المؤلم والبشع في شأن كل هذا هو أنه يأتي على حساب استقرار وسلامة وأمان سكان شمال شرقي سوريا.