نحو حزب بلا تاريخ ـ ضروراته وهويته

في 22/3/2005 نشرت مقالة تحت العنوان ذاته، أعيد الاستفادة مما جاء فيها للإجابة على ملاحظات وتساؤلات القراء على مقالتي “المعارضون بالصدفة” و”أدوات قديمة لا تصنع جديداً” المنشورتين على موقع نورث برس. من حيث المبدأ، إن السؤال عن ضرورة تشكيل حزب سياسي في سوريا، يتطلب البحث في مستويين على الأقل، وذلك في ضوء جملة القضايا الرئيسة التي تواجه بلدنا ومجتمعنا: في المستوى الأول لا بد من تفحص دور الاستبداد في تكوين شخصية المواطن السوري. وفي المستوى الثاني لا بد من إلقاء نظرة نقدية على واقع الحياة السياسية في البلد.

إن عقوداً من الاستبداد، وضغط السلطة على المجتمع، وتفاقم الأزمات الاقتصادية، والاجتماعية، والقضاء على الحريات، وتخريب القضاء، وتعميم الديماغوجيا، وانتشار الفساد واللصوصية في المجتمع، عمقت من اغتراب المواطنين عن وطنهم، وزادت في سلبيتهم، وفي المحصلة أعاقت كثيراً مبادراتهم وإبداعاتهم. في مثل هذه الظروف، كان طبيعياً إحياء الأطر العائلية، والطائفية، والمذهبية، والعشائرية، والجهوية، باعتبارها ملاذاً للمواطن، يؤكد من خلالها شخصيته وحضوره، ويحقق أمنه.

من جهة أخرى، إن الحديث عن الحياة السياسية في سوريا هو حديث عن السلطة ودورها في إنجاز مهام المرحلة الوطنية الديمقراطية، وهو أيضا حديث عن المعارضة السياسية البديل المحتمل لها. وحتى لا يكون الحديث غير محدد القصد والدلالة لا بد من تحديد المقصود بـ “السلطة”. من الناحية النظرية تتكون “السلطة” (أي سلطة) من ثلاث مستويات:

المستوى الأول يضم الأشخاص الحاكمين، وهم دائماً أشخاص حقيقيون.

المستوى الثاني ويضم مؤسسات الحكم، وهي دائماً هيئات اعتبارية.

المستوى الثالث يضم الصيغة التعاقدية للسلطة، أي منظومة التشريعات والقوانين والأوامر الإدارية التي تضبط عمل السلطة وتوجهه. في السلطات الاستبدادية كما هو حال السلطة في سوريا.

يندمج المستوى الأول للسلطة بالمستوى الثاني، فتفقد مؤسسات الحكم طابعها المؤسساتي، وتتحول إلى مجرد أجهزة للتوصيل الأوامري والضبط المجتمعي. أضف إلى ذلك يضيق كثيراً المستوى التعاقدي، ويبرز فيه الدور الإرادي للمستوى الأول بحسب مصالحه، وفي القلب منها مصلحته في استمرار السلطة ذاتها، واستمرار بيئتها المحافظة على طابعها كسلطة استبدادية.

أما بالنسبة لأحزاب المعارضة، فهي ليست بأفضل حال من شقيقاتها أحزاب السلطة. من الخطأ أن نتصور أن الاستبداد هو نظام في السياسة فقط، بل قبل ذلك ومن حيث الأساس هو نظام في الاجتماع، وفي الثقافة. في مثل هذه البيئة من الصعوبة بمكان وجود أحزاب ديمقراطية. ويزيد المشكلة تعقيداً كون السلطة حاولت خلال عقود نزع السياسة من المجتمع، وقمع أي عمل سياسي معارض، فتحولت الأحزاب المعارضة (بل بقايا أحزاب) إلى نوع من الأخويات التي تجمعها طقوس السرية.

إن الحياة السياسية في ظل الرأسمالية لا تستقيم بدون وجود شكل من أشكال الديمقراطية، وهذه الأخيرة لا تستقيم بدون وجود الأحزاب السياسية. بهذا المعنى فإن الأحزاب السياسية هي شكل ضروري للوجود الاجتماعي، يمارس المجتمع من خلالها حياته السياسية. الحزب السياسي من وجهة نظرنا هو شكل ضروري للوجود الاجتماعي في الرأسمالية، وهو بصفته هذه يتميز باستقلالية نسبية تجاه الأشكال الأخرى لهذا الوجود. ولذلك فإن علاقته بالطبقة الاجتماعية (الطبقات) هي علاقة بين شكلين للوجود الاجتماعي مستقلين عن بعضهما، فهو لا يتماثل معها، ولا ينوب عنها فيمثلها في الصراعات الاجتماعية الطبقية.

إن بناء الحزب السياسي، وتحديد طبيعته، ونظام حياته الداخلية، ليس لها علاقة بمسألة وحدانية التمثيل السياسي للطبقة الاجتماعية (الطبقات)، التي يشترك معها في الرؤى السياسية، لكنها ذات أهمية كبيرة في مجال السياسة العملية. من حيث المبدأ ينبغي أن يسترشد بناء الحزب السياسي المنشود بمجموعة من المبادئ، نذكر منها:

1-مبدأ الديمقراطية الشاملة، بما يعنيه ذلك من دورية الانتخابات، وانتخاب الهيئات القيادية من تحت إلى فوق على أساس تنافسي، وتحديد فترة إشغال المستوى القيادي.

2-مبدأ العلنية والشفافية في ممارسة الحزب لمختلف نشاطاته.

3-مبدأ التزام الأقلية بالسياسات والقرارات التي تتخذها الأغلبية، مع احترام حق الأقلية في التعبير عن وجهة نظرها بكل وسائل التعبير المتاحة، والعمل داخل الحزب على إنضاج أكثرية جديدة.

إن ممارسة الديمقراطية في حياة الحزب الداخلية، وفي علاقاته مع الجماهير، والمنظمات السياسية والاجتماعية الأخرى ينبغي أن تشمل ليس فقط تنفيذ السياسات الحزبية، بل إنتاج هذه السياسات. في هذا المجال من الأهمية بمكان الاستفادة من الرأي الاستشاري للخبراء والمختصين على نطاق واسع.

لقد أشرنا في تحديدنا لمفهوم الحزب السياسي، إلى أنه شكل للوجود الاجتماعي، يدخل في علاقات مع مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية على أساس الاشتراك في الرؤى السياسية، إنها بالنسبة له موضوع للممارسة السياسية. ونظراً لأن الخطاب السياسي للحزب محكوم بفهمه لمنطق التاريخ (ما يطرحه من مهام) في المرحلة التي يمر بها المجتمع، وهو منطق يتغير باستمرار، لذلك ينبغي على الحزب أن يتوجه بخطابه السياسي، وأن ينفتح تنظيمياً على جميع الطبقات والفئات الاجتماعية (الكتلة التاريخية) التي يقع على عاتقها إنجاز المهام التي يطلبها منطق التاريخ في المرحلة التي يمر بها المجتمع، وأن يعكس في اسمه وشعاراته تلك المهام.

إن المرحلة التي تمر بها سوريا في الوقت الراهن هي مرحلة وطنية ديمقراطية. في جانبها الوطني تبرز مهام إزاحة البنى والعلاقات البطريركية، والإقطاعية المشرقية، وثقافتها المطابقة من المجتمع، لصالح تعميم البنى والعلاقات الرأسمالية، كقواعد أساسية لاشتغال النظام. وفي جانبها الديمقراطي تتطلب خلق المناخ المناسب لتحقيق أفضل توليفة اجتماعية لإنجاز المهام الوطنية المحددة تاريخياً، وهذا لا يكون إلا إذا كانت بيئة النظام مشبعة بقيم الحرية والديمقراطية وسيادة القانون. ومن الواضح أن القوى الاجتماعية التي تنسجم مصلحتها مع منطق التاريخ في المرحلة الراهنة تشمل أغلب طبقات وفئات الشعب من عمال، وفلاحين، وبرجوازية صغيرة مدينية، وبرجوازية تقليدية، ومثقفين، وجنود. أما الفئات التي تتعارض مصلحتها مع منطق التاريخ في هذه المرحلة في سوريا، فهي البرجوازية البيروقراطية والطفيلية والكمبرادورية. وبناء على ذلك فإن الصراع الطبقي في سوريا هو صراع وطني ديمقراطي، يتنازعه خطابان سياسيان: خطاب ديمقراطي، وطني وإنساني، روافعه قوى التقدم الاجتماعي (الكتلة التاريخية)، وخطاب استبدادي، أو لا انتمائي(كسموبولوتي)، روافعه القوى المعيقة للتقدم الاجتماعي. في إطار معادلة الصراع هذه تتقدم مهمة إنشاء أحزاب سياسية على أسس جديدة تقر بالاختلاف وضرورته، والحق فيه، والحق في الدفاع عن الوجود المختلف بطرق سلمية.