مما لا شك فيه أن “نظام الأسد” يدرك تماماً أن حوامل وجوده في الجنوب السوري تستند على ركيزتين أساسيتين هما الحواضن الشعبية في محافظتي درعا والسويداء, وبعد أن فقد درعا في بداية “الثورة السورية” قبل أن يستعيدها بما سمي اتفاق المصالحة. حاول الحفاظ على الركيزة الأخرى في مدينة السويداء التي تتصف ببعد طائفي خاص متمثلٍ بالطائفة الدرزية التي حاولت جاهدة النأي بالنفس عن صراعات النظام مع الشعب السوري والتزام الحياد ومنع شبابها من الالتحاق بالجيش, قابلها “النظام” بشعار تاجر به كثيراً يتمثل بحماية الأقليات, رغم أن الحقيقة تقول إنه يحتمي بالأقليات ولا يحميها بما في ذلك الطائفة العلوية نفسها.
التطورات في الجنوب السوري (السويداء)
مربط الفرس بانتفاضة السويداء ليست قضية عصابات فقط, وليست قضية راجي فلحوط, وليست قضية تصنيع وتجارة مخدرات, الخطر على السويداء أكبر وأشمل كما قال ليث البلعوس: (الخطر يكمن في التغول والتمدد الشيعي الإيراني في مدينة السويداء وكامل جبل العرب), ليث البلعوس هو ابن وحيد البلعوس الذي قتله “نظام الأسد” وإيران, وحينها اتهم ليث الجنرال (المقتول) قاسم سليماني بالاسم أنه يقف وراء تصفية والده عام 2015, مجدداً منذ أيام كرر ليث البلعوس نفس الرواية عندما كان في مزرعته ومضافته (مضافة الكرامة) بقرية المزرعة, وفيها أعاد بعض الأسرى ممن كان يحتجزهم راجي فلحوط لأهاليهم, وكرر على رؤوس الأشهاد قائلاً: (راجي فلحوط ليس هدفنا الأساسي بل هدفنا اجتثاث التمدد الشيعي الإيراني من محافظة السويداء), وتنشر بعض الأطراف المحسوبة على “النظام” (سراً) أن ليث البلعوس ما هو إلا عميل للأمن العسكري بهدف تخفيف تأثيره على الطائفة الدرزية لأنهم لايريدون زعامة درزية قوية.
السويداء التي عجز “نظام الأسد” عن إركاعها وإجبارها على الخنوع, السويداء التي رفضت منذ انطلاق “الثورة السورية” الزج بأبنائها بالمقتلة السورية, فامتنعت عن رفد “جيش النظام” بشبابها, وفاقت أعداد الرافضين للخدمة “بجيش الأسد” الـ50 ألفاً منهم, وهذا ما أرق “النظام” الذي حاول جاهداً وبكل وسائل وأساليب الضغط الأمنية وغير الأمنية إجبار شيوخ عقل الطائفة الدرزية على الرضوخ لأمره, لكن أجهزة “أمن النظام” فشلت بمسعاها.
لجأ بعدها “نظام الأسد” لاستخدام أدواته في الإرهاب المصنع “أسدياً” عبر تنظيم “داعش” عندما نقله من القلمون الغربي إلى وادي اليرموك مع شريكيه حزب الله وفيلق (اللاقدس), ثم بيّت الشر لأهالي السويداء فقطع التيار الكهربائي عن قراهم الشرقية, وسحب جيشه من شرقي السويداء ودفع بقطعان الدواعش على القرى والبلدات الآمنة, فكانت الحصيلة مقتل 222 من أبناء السويداء, وجرح 200 آخرين, واختطاف 20 سيدة من قرية الشبكي, لكن بغم إجرام “النظام” وإجرام داعش لم تنحن لهم هامات أهل السويداء بل زادتهم إصراراً على المواجهة.
مع عودة “النظام” للحدود الأردنية, ومع اعتماد محور إيران على تصنيع وتجارة المخدرات كاقتصاد بديل عن العقوبات الغربية التي دمرت اقتصادهم, لجأت إيران وحزب الله وأجهزة “أمن الأسد” لخطة نشر المخدرات في السويداء وجعلها بلد عبور نحو الأردن, وسهلت عمل اللصوص وأرباب السوابق و(الكوادين) لنشر الفسق والعهر بالمحافظة, حتى وصلت المخدرات وحبوب الكبتاغون للمدارس الابتدائية في المحافظة, وسادت الجريمة بعد أن تعاقدت المخابرات العسكرية مع قطاعي الطرق والخارجين عن القانون من أمثال راجي فلحوط ومجدي نعيم ونزيه الجربوع وخالد نمور وغيرهم كثر, لترويع أهالي السويداء عبر الخطف والقتل ودفع الخوات, فكانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير,وكانت انتفاضة أبناء سلطان باشا الأطرش التي أوقفت خطط النظام, ودمرت مرتكزات الإرهاب, ولقنت إيران والأسد درساً في قدرات الشعوب إذا ما رصت صفوفها ووحدت أهدافها, مع معلومات سُربت من مصادر خاصة تؤكد أن روسيا منعت “نظام الأسد” من دعم راجي فلحوط ووقف الهجوم عليه وتركت لهم فقط إمكانية تهريبه.
هل يغفر الإيرانيون هذا التطور وهذا التحجيم والكشف لدورهم بالجنوب عامة وبالسويداء خاصة؟ أم أن لإيران موقف متوقع وفاتورة وثمن كبير قد يدفعه ليث البلعوس ومن معه ومن حوله عبر التصفية أو الاغتيال كما دفعها والده من قبله على يد النظام وإيران؟؟
في قرية المرتك بريف السويداء هناك مقام للمهدي يعتبره الشيعة مقدساً, واعتبروه مسمار جحا للتمدد ونشر التشيع بالمحافظة, وأهل السويداء يدركون ذلك, وحاولت ميليشيات إيران وحزب الله مد الصلات مع شيوخ عقل الطائفة الدرزية, وسابقاً حاولوا بناء حسينية بقرية “المرتك”, لكن الدروز قاموا بهدم الحسينية.
الخرق الذي استحدثه الإيراني وأدواته كان عبر مجدي نعيم, والخرق الأكبر كان في بلدة أشرفية صحنايا مع أحد شيوخ الدروز ويدعى الشيخ عارف شعبان, الذي اتبع دورات بإيران (بـ “قم”) ونشر دراسات ترويجية للتقريب بين الدروز والمذهب الإثني عشري, ومع ذلك فنسبة التشيع بصفوف أهالي السويداء من الدروز هي قليلة وقليلة جداً.
إجمالاً الدورز رافضون لأفكار ومشاريع إيران, والمجتمع الدرزي كاره للتقارب مع الأجندة الإيرانية, حتى الشيخ موفق طريف شيخ عقل الطائفة الدرزية في فلسطين وفي الجولان يرفض ذلك, ويشاركه بنفس المنحى ثلاثي عقل الطائفة الدرزية في السويداء (الشيخ حكمت الهجري والشيخ يوسف جربوع والشيخ محمود الحناوي) رغم بعض التباين بمواقفهم, لكن الشيخ حكمت الهجري خرج مؤخراً عن صمته وطالب بعزل رؤساء الأفرع الأمنية بالسويداء, وحملهم مسؤولية كل ما يحصل معلناً موقفاً واضحاً ضد خطط فرع الأمن العسكري ودعا للنفير العام, (والشيخ حكمت الهجري هو شقيق الشيخ أحمد الهجري الذي اغتاله النظام عام 2012).
أحداث استئصال عصابة راجي فلحوط أعطت صورة واضحة بأن المجتمع الدرزي في السويداء ما زال محصناً حتى الآن ويقاوم الاختراق, وأن المجتمع الدرزي بالسويداء يقوم بعزل كل المتشيعين ونبذهم, ومعظم من تشيع بقي طي الكتمان والإخفاء والتستر.
أهالي الجبل اليوم عازمون على اجتثاث كل عصابات إيران والأمن العسكري, ووقف ضرب البنية الداخلية للسويداء, ووقف تجارة المخدرات لخطورتها على الشباب, وإحباط محاولاتهم بضرب وحدة الجبل والسهل (جبل الدروز وسهل حوران) كونها تشكل قلقاً كبيراً لإيران والأسد, ولزيادة الضغط على “نظام الأسد” ومشغليه فقد أصدر تجمع “القوى الوطنية في السويداء” بياناً بتاريخ 5 أغسطس/آب 2022 قال فيه، إن انتشار الجريمة والمخدرات والسرقات والخطف والقتل في محافظة السويداء تتم بعلم “نظام الأسد” وأجهزته الأمنية وبإشراف وتمويل من ميليشيات “حزب الله” اللبناني وإيران, والحل في محافظة السويداء مرتبط بالحل الشامل في البلاد وفق القرار الدولي 2254.