أيمن الظواهري.. سيرة معقدة

في صباح يوم الأحد الماضي، تم اغتيال زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري بمسيرة أميركية أرسلتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أثناء جلوسه على شرفة شقة مستأجرة بالحي الديبلوماسي بالعاصمة الأفغانية كابل يملكها أحد مساعدي وزير الداخلية بحكومة طالبان.

قد يكون هذا المشهد معبراً، من حيث أنه يذكر بعبارة وزير الخارجية البريطاني روبين كوك 1997-2001، عندما قال: “تنظيم القاعدة هو نتيجة الحسابات الخاطئة لأجهزة الأمن الغربية”، عندما نشأ في عام 1988 بعد ثماني سنوات من تشجيع الغرب الأميركي- الأوروبي، مع عواصم إقليمية منها إسلام آباد والرياض والقاهرة، للإسلاميين على المجيء لأفغانستان وقتال السوفيات هناك، وعندما انتهت مهمتهم بهزيمة الكرملين أدار الإسلاميون السلاح ضد واشنطن مع تأسيس تنظيم القاعدة في آب 1988 بعد أربعة أشهر من توقيع الاتفاق الدولي بانسحاب القوات السوفياتية من أفغانستان.

ربما، هنا، ذو دلالة كبيرة أن تقتل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية زعيم تنظيم القاعدة الحالي كما قتلت سلفه المؤسس للتنظيم أسامة بن لادن في عام 2011، ولكن ليس في أفغانستان، حيث كان ميدان التلاقي بين واشنطن والإسلاميين بالثمانينيات ضد موسكو، وإنما في باكستان وفي منزل هو على بعد مئات الأمتار من الكلية العسكرية الباكستانية، حيث كان الجيش الباكستاني بزعامة الجنرال ضياء الحق هو صلة الوصل بين واشنطن والإسلاميين.

أيضاً قد يكون وجود الظواهري في كابل، وهو أمر مستبعد أن يكون قبل استيلاء طالبان على كابل في 15 آب 2021، بالغ الدلالة من حيث أنه وجد ملاذاً آمناً في منزل يملكه مسؤول أفغاني هو على بعد مئتي متر من القصر الجمهوري وتجاوره سفارات عدة، ويمكن أن يكون الظواهري كبش تقارب بين طالبان وواشنطن بادر للدلالة على مكانه جناح آخر في الحركة ليكون هذا جسراً للتواصل وتعزيز وتقوية العلاقات مع الأميركان بعد عام من الغزل الروسي والصيني والإيراني بطالبان.

هنا، إذا كان مقتل الظواهري يحمل كل هذه الدلالات، فإن سيرته الحياتية تحوي تكثيفاً فردياً لمسار الحركة الإسلامية العالمية. أي، سيرة شخص ولد في القاهرة عام 1951 لأب كان أستاذاً جامعياً في كلية الصيدلة، وجده لأبيه كان شيخاً للأزهر، ومن أم كان والدها هو الدكتور عبدالوهاب عزام أستاذ الأدب العربي في جامعة القاهرة وهو شقيق عبد الرحمن عزام أول أمين عام للجامعة العربية بالأربعينيات، ويلفت النظر عديد الأسر الثرية المصرية، سواء في القاهرة أو في الصعيد، التي أفرزت قيادات للحركة الإسلامية، مثل حسن الهضيبي وخيرت الشاطر والظواهري، ولكن، إن كان الهضيبي قد رد على تطرف سيد قطب في كتابه “دعاة لاقضاة” الذي كتبه في السجن بعام 1969 فإن الظواهري قد سبح في بحر قطب، كما أن خيرت الشاطر بعد خروجه من السجن بعام 2011 قد دعم سيطرة الجناح القطبي على تنظيم جماعة الإخوان المسلمين بقيادة الأستاذين الجامعيين محمد بديع ومحمود عزت.

ولكن الظواهري ومنذ السبعينيات أراد حمل السلاح ضد السلطة المصرية، مثل نظيره السوري مروان حديد مؤسس تنظيم “الطليعة المقاتلة” وهو خريج كلية الزراعة بجامعة القاهرة بالستينيات، وهو كذلك من أسرة ثرية في مدينة حماة ومتأثر بأفكار سيد قطب أيضاً، وهو ما دفعه للمشاركة في تأسيس “تنظيم الجهاد” عام 1980، باندماج بين تنظيم من القاهرة غالبيته من المتعلمين وأبناء أسر غنية وبين تنظيم من الصعيد بقيادة كرم زهدي، وهو التنظيم الذي اغتال الرئيس أنور السادات في عام 1981. انقسم التنظيم في السجن بين القاهريين والصعيديين الذين حملوا لاحقاً اسم “الجماعة الإسلامية” فيما اتجه تنظيم الجهاد بعد الخروج من السجن أواسط الثمانينيات نحو العمل المسلح على طراز يساريي التوباماروس في الأوروغواي، أي الاغتيالات وضرب المنشآت مع التحضير لانقلاب مسلح، وهذا ما مارسه الظواهري بعد توليه زعامة “تنظيم الجهاد الإسلامي المصري” في عام 1991 حيث جرت محاولات من قبله لاغتيال وزير الداخلية حسن الألفي ورئيس الوزراء عاطف صدقي عام 1993 قبل أن يقوم التنظيم بمحاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في عام 1995 بمطار العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.

هنا، فشل الظواهري ضد النظام المصري، وعندما ذهب هو وأسامة بن لادن من السودان إلى أفغانستان بعد سيطرة حركة طالبان على كابل في أيلول 1996 فإن ابن لادن حاول إقناع الظواهري بأن التناقض الرئيسي ليس مع النظام المصري بل مع واشنطن، وأنه كما انهار الاتحاد السوفياتي بعد هزيمته في أفغانستان فإن هذا يمكن تكراره ضد الأميركان عبر جهاد إسلامي مسلح يأخذ بعداً عالمياً يضرب “رأس الأفعى” في واشنطن وليس “بطنها في تل أبيب” أو “ذيلها في الأنظمة العربية”، أي الأساس هو “العدو البعيد الخارجي” وليس “العدو القريب المحلي”.

كان أول علامات اقتناع الظواهري هو تأسيسه مع ابن لادن وتنظيمات متعددة لـ”الجبهة الإسلامية العالمية ضد الصليبيين واليهود” في 23 شباط 1998، والتي ينسبها البعض بأنها تنظيم القاعدة في لحظته التأسيسية، بينما كان هذا إعلاناً عن انتصار وجهة نظر ابن لادن على وجهة نظر إسلاميين آخرين كانوا يقولوا بالعمل المحلي. كانت أول ترجمات تلك الجبهة هو تفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا في آب 1998 ثم ضرب المدمرة الأميركية كول في تشرين الأول 2000 أمام الساحل اليمني، ثم ضربة 11 سبتمبر 2001 لبرجي التجارة العالمي بنيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن، وهناك علامات ومؤشرات كبرى على أن هدف ابن لادن ليس فقط ضربة مؤلمة، للداخل الأميركي، ذات طابع مادي ومعنوي، وإنما دفع واشنطن لغزو بلدان إسلامية تكون ساحات لمواجهتها وهزيمتها هناك لدفعها نحو الانهيار كما جرى للسوفيات من خلال أفغانستان، وهو ما قدر ابن لادن بأنه سيولد استقطابات في البلدان الإسلامية تكون فيها نظريته حول “الفسطاطين” هي الأقوى، أي “المسلمون” ضد “الصليبيين” بقيادة واشنطن وحليفها “اليهودي” في إسرائيل الذي هو برأيه تابع ولكن بمرتبة أعلى من الحلفاء لواشنطن في الأنظمة العربية، كما أنه من خلال نظريته حول “الفسطاطين” يرى أن العلمانيين والليبراليين والوسطيين الإسلاميين سيغرقون في صراع حدي كهذا لا مكان برأيه للوسطية فيه.

في هذا الإطار، كان معبراً أن يندمج تنظيم “الجهاد الإسلامي المصري” مع تنظيم “القاعدة” في حزيران 2001 ويحل نفسه، وأن يصبح الاسم الجديد هو “تنظيم قاعدة الجهاد” الذي تبناه تنظيم القاعدة بشكل رسمي في إحدى منشوراته ابتداءاً من نيسان 2002، وكان ملفتاً أن يكون ستة من أصل تسعة من قيادة التنظيم الجديد مصريون في “مجلس الشورى”. تم تطبيق استراتيجية ابن لادن في 11 سبتمبر وبعد الغزوين الأميركيين لأفغانستان والعراق، ولكن فشلت استراتيجيته في إحداث انهيار أميركي مثل الانهيار السوفياتي، رغم فشل واشنطن في أفغانستان والعراق. هنا، كان اغتيال ابن لادن عام 2011، إضعافاً لتنظيم القاعدة من خلال إنهاء قائد كاريزمي، وقد ظهر هذا من خلال انشقاق أبوبكر البغدادي أمير “دولة العراق الإسلامية” وتأسيسه لـ”الدولة الإسلامية في العراق والشام-داعش” في 9 نيسان 2013، وعدم استطاعة الظواهري الذي تولى قيادة تنظيم القاعدة بعد ابن لادن السيطرة ومنع هذا الانشقاق، وقد استطاع البغدادي استغلال آراء الظواهري القديمة في تغليب “المحلي” على “العالمي”، وأن من في الميدان هو من يقرر وليس “المركز”، وأن “المحلي” مثل البغدادي هو من يحق له إعلان دولة “الخلافة الإسلامية العالمية” وليس قيادة تنظيم القاعدة، ويبدو أن البغدادي قد استغل نمو فرعي العراق وسوريا من أجل تجاوز الظواهري الجالس على كرسي زعيم تنظيم عالمي مثل “القاعدة”. الآن، يوازي “داعش” قوة تنظيم القاعدة ويفوقه، فيما ظلت قوة “القاعدة” في اليمن والصومال ومنطقة الصحراء بين الجزائر ومالي، فيما ينتهج الجولاني مجرى تحويل “النصرة” منذ تغيير اسمها عام 2016 وفك ارتباطها بالقاعدة إلى تنظيم محلي سوري بدأ بمغازلة الغربيين، وعلى الأرجح تقديم خدمات لواشنطن ضد “داعش” وضد من مازال مرتبطاً بتنظيم القاعدة في “تنظيم حراس الدين”.