قبل عقد من الآن، وضمن مختلف تنظيمات الإسلام السياسي في منطقتنا، كان ثمة أعضاء كُثر من الرغبين في المشاركة في الحياة العامة بهدوء ما. ضمن طيف الإسلاميين العام، كان هؤلاء يتشكلون من أبناء الطبقات الاجتماعية الأكثر تمدناً والأفضل تعليماً وذوي المداخيل الاقتصادية الأفضل. في بنية وعيهم، كان هؤلاء الذين يملكون تطلعاً للمزج ما بين أمرين: المشاركة في الحياة السياسية ومختلف أشكال الشأن العام، مع الحفاظ على الكثير من القيم والأدوات والخطابات الرمزية “الدينية/الإسلامية”، ودون أي اندراج في العنق أو حروب الكراهية أو ممارسة أي فاعلية سياسية خارج بلدانهم.
وقتئذ، كانت العديد من تحليلات وقراءات علم الاجتماع السياسي الخاص بالإسلام السياسي في منطقتنا، تقول إن هذه الطبقة من الإسلاميين، على اختلاف التقديرات بشأن حجمهم وموقعهم من سدة “قيادات” تنظيمات الإسلام السياسي، إنما ستكون الطبقة السياسية التحديثية لهذا الإسلام السياسي، خصوصاً لخطاباته ونزعاته وأشكال وعيه الثقافية والسياسية والمجتمعية التقليدية، وتبشر بأن هذه الطبقة التي ستتمكن من تحديث هذا الإسلام السياسي وإعادة بلورة تنظيماته، لتكون أحزاباً وقوى سياسية مطابقة لتنظيمات “الأحزاب المسيحية الأوربية”، التي تبني عالمها السياسي وخطابها الداخلي على مزيج من الالتزام المطلق بالقيم العليا للديمقراطية المدنية، مع نزعات نحو المحافظة الخطابية والسلوكية والمجتمعية والإيديولوجية.
تلك القراءات كانت تذهب لتسمية أعضاء هذه الطبقة من الإسلاميين بـ”أبناء الجيل الثالث” من الإسلاميين. بعدما كان الدعاة التقليديون –الجيل الأول- قد غطوا طوال مرحلة الثلاثينات وحتى نهاية الستينات، من الذين تمركزوا حول خطاب “إعادة إحياء الخلافة الإسلامية الراشدة”. وكان المندرجون في العنف العابر للحدود، من أفغانستان وإلى الشيشان والبوسنة، قد شكلوا الجيل الثاني، طوال السبعينات والثمانينات والتسعينات.
اليوم، وبعد عقد كامل من “التجربة الأليمة” التي مارستها تنظيمات الإسلام السياسي، أثناء عقد الربيع العربي، يبدو أن ذلك الأمر قد تبدد تماماً. فالإسلام السياسي بات بمثابة كتلة صماء واحدة، متمركزة حول طبقة من الزعامات التقليدية، من الذين ما يزالون يستمدون خطاباتهم ومنطقهم السياسي وآليات عملها من أدبيات حسن البنا والسيد قطب وحسن الترابي، وغيرهم من آباء الإسلام السياسي الأكثر تقليدية.
عقد الربيع العربي أثبت تهافت وإفلاس ومخادعة ثلاثة شعارات كبرى، كان هذا الإسلام السياسي ينادي بها، الإخواني منه بالذات، لكن الممتد على طيف واسع من قوى الإسلام السياسي.
تأتي مسألة العنف على رأس تلك الكواشف العمومية.
فسنوات الربيع العربي لم تُثبت فقط أن المحصلة القيمية لخطابات ومنطق الإسلام السياسي تهيء وتحرض على خلق فضاء عمومي جاذب للعنف، بل أثبتت أيضاً أن قوى الإسلام السياسي تملك تنظيمات عسكرية سريّة، منظمة ومدربة على استخدام العنف. فوق ذلك، فإن نفس القوى الإسلامية تملك قابلية تام لتبني تنظيمات إرهابية ذات نزعة طائفية ثأرية، لا تختلف عن تنظيمات الإرهاب العالمي إلا ببعض التفاصيل الخطابية.
على أن السيرة العمومية لعقد كامل من هذه التجربة، قالت بوضوح، إن هذه التنويعة من استخدام العنف، بمختلف أشكالها، والتي كانت مُضمرة وصارت واضحة، إنما لن تحقق أي شيء في المحصلة. لأسباب متنوعة، على رأسها قدرة المجتمعات وأعضاء مؤسسات الدولة وذوي المصلحة الاقتصادية في وجود حياة مدنية في بلد ما، قدرتها على مواجهة هذا العنف الإسلامي بأي ثمن، بما في ذلك التخلي عن واحدة من تطلعاتها الأكثر رسوخاً، ألا وهو المطالبة بالديمقراطية.
كذلك كشف عقد الربيع العربي ذلك التداخل الرهيب بين شبكات الإسلام السياسي وبين أجهزة الاستخبارات والأنظمة السياسية القمعية، الإقليمية منها والدولية على حدٍ سواء. ذلك التداخل وتلك العلاقات التي بقي الإسلاميون طوال عقود يتبرأون ويتطهرون منها وينكرونها.
علاقة الإسلاميين مع الأنظمة السياسية في بلدان منطقتنا، بالذات مع أجهزة الاستخبارات وقادة الغرف المُظلمة منها تحديداً، أثبتت خواء الخطابات التقليدية للإسلام السياسية، التي كانت تعتبر نفسها جزء تكوينياً من القوى المعارضة للاستبداد والمطالبة بالتغيير والدمقرطة.
فالإسلاميون حسب هذه السيرة، كانوا أدوات استخدام استخباراتية كبرى، وغالباً فقط كذلك. لا يملكون أي مشروع وقيمة مضافة عن هذه الأنظمة الأمنية/العسكرية، بل يملكون تلهفاً جماً لأن تكون هذه الأنظمة راضية عنهم، ومستعدون حتى لبيع “إخوتهم” في سبيل ذلك. حماس تعود للنظام السوري وتتجاوز إخوان سوريا، هؤلاء بدورهم في جعبة أردوغان على حساب حليفهم التقليدي فتح الله غولن، وكذلك إسلاميو مصر والسودان وتونس والعراق.
أخيراً، فإن الربيع العربي كان درساً بليغاً في خواء صندوق الإسلام السياسي من أي دمقرطة وبناء حياة سياسية تشاركية وتعاقدية، كما كانوا يعدون.
فالأماكن الصغيرة التي حكموها، وبعض الدول التي صارت تحت سيطرتهم لوقت قصير، كانت نماذج شديدة البلاغة عن المقصد النهائي لهذا الإسلام السياسي، كقوة دفع كبرى نحو تشييد أنظمة حكم ثيوقراطية قروسيطة، قائمة على شمولية استبدادية مطلقة، بالسلطة عبر التفرد، وعلى المجتمع عبر تطبيق طيف من الأحكام والنُظم المتأتية من عقائدهم وأيديولوجياتهم التي لا تمت بأية صلة لأي من منجزات الحداثة الإنسانية.
لكن، أين هُم أفراد تلك الطبقة من الشُبان –الجيل الثالث- من الذين كانوا قبل عقد من الزمن يبشرون بإجراء تحول نوعي في بُنية الإسلام السياسي في دول منطقتنا، وما هي التحولات الجذرية التي اصابتهم؟!.
ما يزالون كثيرون وحاضرون في مختلف المجتمعات والبلدان، وإن كانوا قد أصيبوا بواحد من استقطابين: فإما انجرفوا نحو حركات العنف العدمي الإرهابي، أو صاروا مصابين بـ”تروما” أفعال الإسلام السياسي خلال هذا العقد.
لكن، ومع كل ذلك، يملك أعضاء هذه الطبقة من أبناء البيئات المحافظة من مجتمعاتنا، مصلحة عليا في إحداث تحول نوعي في بنية الفعل السياسي المحافظ/الإسلامي، ليكون على قطيعة مع الإسلام السياسي التقليدي الذي كان، بالذات في المسائل الثلاث عالية الفداحة المذكورة سابقاً، وأن يقدموا نماذج ما، أقرب ما تكون للقوى والتيارات السياسية الأوروبية المحافظة، الديمقراطية والمدنية والمحافظة في الآن عينه.
حيث أن هؤلاء الشُبان هُم ضحايا غياب أي مثال أو نموذج عن ذلك، وغالباً الآخرون أيضاً ضحايا مماثلون.