دروس الانتفاضة التونسية

لقد دشنت انتفاضة الشعب التونسي على نظام بن علي الاستبدادي، حقبة تاريخية بالنسبة لجميع الشعوب العربية، صارت تؤرخ وتعاير بالقياس إليها جميع الأحداث التي جرت أو سوف تجري، بهذا الشكل أو ذاك، في جميع الدول العربية. إنه النموذج العربي لثورة الشعوب على جلاديها، وهو نموذج أصيل بكل المعاني، وسوف يشكل موضوعاً للتأمل والدراسة والاستلهام لفترة طويلة. بطبيعة الحال من المبكر، ونظام الحكم الذي جاءت به الثورة لم يستقر بعد، ومحاولات إجهاضه أو تفريغه من محتواه هي الأخرى جارية على قدم وساق، الخوض في تفاصيلها مع ذلك فإن الثورة التونسية قدمت مجموعة من الدروس البليغة والمعبرة نذكر منها:

الدرس الأول؛ هو أن الطبيعة الاستبدادية الأمنية للنظام التونسي لم تحميه من السقوط السريع. تكمن أهمية هذا الدرس في قابليته للتعميم، وبالفعل سرعان ما استلهمته بعض الشعوب العربية وانتفضت ضد حكامها.

الدرس الثاني؛ إن إفراغ المجتمع من السياسة، من جراء تعميم القمع واستمراره، ومطاردة الخصوم السياسيين، وتوزيعهم على السجون أو المنافي، لم يعد صالحاً للمحافظة على بقاء الأنظمة المستبدة.

الدرس الثالث؛ إن الحزب المليوني الذي يشكله المستبد على شاكلته، وكذلك المنظمات الأهلية والمدنية والنقابية، التي يحولها الاستبداد إلى مجرد أجهزة، سرعان ما ترتد عليه في لحظة من لحظات السقوط لتعجل به.

الدرس الرابع؛ من الواضح أن الثورة التونسية قد فاجأت الدول الغربية، وحصلت خارج أجندتها، وهي تلهث وراءها محاولة ضبط إيقاعها وتحديد اتجاهها، خشية من أن تؤثر على مصالحها.  

الدرس الخامس؛ إن التضحيات التي قدمها الشعب التونسي، والقوى السياسية المعارضة، لم تذهب هدراً، لقد كانت بمثابة الوقود الذي جعل شعلة الحرية والديمقراطية والتنمية الوطنية متوهجة.

الدرس السادس؛ فقدت تهمت الخيانة والعمالة للخارج، التي كانت تلصقها الأنظمة المستبدة بمعارضيها، صلاحيتها، فالثورة التونسية قد برهنت على أن هذا الخارج هو حليف الأنظمة المستبدة، والداعم الرئيس لها.

الدرس السابع؛ لقد راهنت الأنظمة الاستبدادية العربية كثيراً، على تحييد دور الشباب في المجتمع، من خلال تسطيح وعيهم، والسيطرة على منظماتهم، ومؤسساتهم التعليمية… غير أن الثورة التونسية جاءت لتؤكد زيف هذا الرهان، ولتعيد الاعتبار للدور التاريخي للشباب.

الدرس الثامن؛ عندما تنتهي صلاحية النظام المستبد يتخلى عنه حماته الأجانب، وهو موجه إلى الحكام العرب، انظروا واتعظوا من تجربة زين العابدين بن علي، إذ رفض أقرب أصدقائه له(الفرنسيون) استقباله، كما رفضت إيطاليا ومالطا وغيرها ذلك، رغم ملياراته التي سرقها من بلده، ولسان حالهم يقول: لقد انتهى دوره. ثم هم لا يستطيعون تجاهل شعوبهم، كما تفعلون. أشك بأنكم سوف تستخلصون العبر من ذلك، إذ في السابق مرت أمام أعينكم عبر مماثلة شديدة الوضوح فلم تتعظوا.

إن دروس الثورة التونسية كثيرة وبليغة في تعبيرها، وليس لدي أدنى شك في أنه سوف يكتب عنها الكثير في المستقبل. ما أود قوله هو أن أهمية الثورة التونسية تتجاوز حدود الدول العربية التي قام البعض منها بانتفاضته الخاصة به في كل من مصر وليبيا وسوريا واليمن في موجتها الأولى، والجزائر والسودان في موجتها الثانية إلى العديد من الدول الأجنبية (الثورات الملونة)، وهذا ما سوف يضاعف كثيراً من حجم المؤامرات عليها لإجهاضها أو تفريغها من مضمونها أو لتوظيفها في خدمة أجندات خارجية خاصة. إن قضية الحرية والديمقراطية هي قضية شعوب المنطقة إذ من غير المسموح في الاستراتيجيات الدولية عموماً حصول أي مناخ من الحرية والديمقراطية يمكن أن يعيد إلى السلطة قوى سياسية يكون همها التنمية الوطنية، أو يفسح المجال لخيارات سياسية معبرة حقيقة عن إرادة الشعوب العربية. لذلك من الأهمية بمكان في المرحلة الانتقالية التركيز على تغيير كل مرتكزات الاستبداد بما يؤسس لدولة مؤسسات حقيقية لا تسمح بعودته مرة أخرى.

إن التغيير الجذري الذي أحدثته الانتفاضة في كل من تونس ومصر في مفهوم ” الشعب” ليصير قوة تغيير فاعلة أرعبت الحكام العرب، وإن حالهم بعد الثورة التونسية هو غيره بعدها. منهم من سوف يعيد التشدد في أدواته الأمنية، ومنهم من سوف يتظاهر بتجاهل الثورة، مع أنه في حقيقة الأمر سوف يكون مشغولاً بها حتى في نومه، ومنهم من بدأ يلاقي بعض مفاعيلها باتخاذ بعض الإجراءات الاقتصادية من قبيل تخفيض أسعار بعض السلع الغذائية، أو تقديم الدعم والمنح هنا أو هناك. ما نود قوله لهم: ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان، ولا بديل بعد اليوم عن الحرية والديمقراطية والتنمية الشاملة.