قواعد القتل من روبوسكي وإلى مصيف زاخو

تُعيدنا مأساة قصف مدفعية الجيش التركي وقتلها تسعة مدنيين عراقيين داخل حدود بلادهم وجرح 23 آخرين في مصيف قرب زاخو، إلى ما حصل في قرية روبوسكي ليلة الثامن والعشرين من كانون الأول 2011، حين أقدمت المقاتلات التركية على ارتكاب مذبحة بشعة راح ضحيتها 34 مواطناً كردياً يعملون في نقل البضائع المهرّبة كالشاي والسجائر، وقتها برّرت الحكومة المذبحة التي شغلت الرأي العام المحلّي بخلل في التنسيق بين المخابرات والجيش، الأمر الذي فُهم منه أنه محاولة للتنصُّل من المسؤولية وانعدام ٍ للمُساءلة وتبديدٍ لجهود الكشف عن الحقيقة. وربما كانت المذبحة قد نُسيت أيضاً لولا تبنّي حزب الشعوب الديمقراطي مهمّة استذكارها سنوياً والمطالبة بالكشف عن الحقيقة ومن ثم مساءلة المتورّطين في ارتكابها.

لكن منذ مذبحة روبوسكي التي قوّضت فكرة محاسبة المجرمين، وحتى قصف مصّيف برخ بمحافظة دهوك، جرت عمليات قتل خارج القانون في الداخل ولم تساءل السلطة الحاكمة أو تُحاسَب، لاسيما عن تلك الجرائم التي ارتكبت في شمال سوريا وكردستان العراق. والحديث هنا عن مئات القتلى المدنيين في سوريا والعراق بينهم أطفال ونساء قضوا بالقصف الجويّ والمدفعي التركيين أو قتلتهم رصاصات الجندرما.

وفي تقرير نشرته ((Airwars، أشارت في تقديراتها إلى أن عدد القتلى المدنيين الذي تمّ التبليغ عنهم جرّاء الضربات العسكرية التركية في العراق قد بلغ 719 قتيلاً منذ العام 2016، ولعلّ هذا الرقم المهول يقودنا إلى تساؤل أوّلي عن سرّ الصّمت المديد أو الاحتجاج الخافت الذي اتبعته بغداد وأربيل إزاء مقتل كل هؤلاء المدنيين في مقابل الشجب والغضب الذي أظهرته بغداد إزاء مجزرة المصّيف بزاخو؟.

 الغالب على الظنّ أن بغداد لا ترى في عراقيي الإقليم جزءاً من حِصّتها التي تستوجب الحماية، لكنها مُلزمة بمواطنيها وإن كان في الحدود الدنيا للالتزام، فيما لا يمتلك إقليم كردستان العراق سوى سياسة توزيع المسؤولية على العمال الكردستاني وتركيا بعد كل اعتداء تركيّ، رغم أن هذا التوزيع غير عادل ومنحاز للأتراك، ويصرف النظر عن المسؤول المباشر عن أعمال قصف القرى وتدمير البيئة وقتل المدنيين، والحقيقة الأخرى أن الإقليم مع كل قصف تركيّ أو إيرانيّ يستنهض همّة بغداد للدفاع عن الإقليم وشجب العمليات الواقعة ضدّه، وهو الدور الذي تهواه بغداد إذ ترى في مثل هكذا دور بسطاً لشيءٍ من السيادة على الإقليم، إلّا أن مثل هذا الدور قد يُشجّع المركز في استغلال مسألة السيادة على حساب الإقليم وصلاحياته الإدارية والأمنية والاقتصادية الواسعة.

وفي وقتِ كانت إدانة بغداد الرسمية وتحميلها أنقرة المسؤولية عن المجزرة واضحة ومتّسقة مع حالة الغضب الشعبيّ الذي تمثَّل بمهاجمة السفارة التركية وحرق العلم التركيّ، فإنّ تنصُّل أنقرة من ارتكابها المجزرة بدا أمراً مفصولاً عن الواقع، إذ صرّح وزير الخارجية التركية، مولود جاويش أوغلو، أنه بحسب المعلومات الواردة من قوات بلاده المسلّحة، فإنه “لم يتم تنفيذ أيّ هجوم ضد المدنيين في دهوك”، والأدهى من ذلك هو ما قالته السفارة التركية في أنها  تنضمُّ “إلى العزاء على إخوتنا العراقيين الذين استشهدوا على يد حزب العمال الكردستاني”، وهكذا فإن تمرير مثل هذه الأكاذيب الدبلوماسية المكشوفة قد تزيد من ردّة فعل الشارع العراقي وقِواه السياسيّة تجاه سياسات تركيا في العراق واستهتارها بسيادة العراق وأمن مواطنيه، وربما كان من الأجدى أن تعتذر أنقرة عمّا ارتكبته قُوّاتها، بدل إلصاق التهمة بالكردستانيّ، غير أن ما يفسّر هذا المسلك التركي هو عدم قدرتها على الاعتذار للدول والكيانات التي تراها أضعف منها عسكرياً، أو التي تأمَن ردّ فعلها.

وفي الأثناء توصّلت الرئاسات العراقية الثلاث والقِوى السياسية، إلى مجموعة من الخطوات الأمنية والعسكرية والدبلوماسية فضلاً عن توجيه شكوى  إلى مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، إلّا أن هذه التدابير والخطوات لن تُشكِّل الردّ الموضوعي والمناسب على خروقات تركيا، ذلك أنه لا يمكن التصدّي لتركيا دون توحيد الصف العراقيّ وتطابُق مواقف ومصالح بغداد وأربيل وهو أمر شبه مستحيل بالنّظر إلى الوشائج والعلاقات التي تجمع الأخيرة بأنقرة.

ربما أخطأت أنقرة هذه المرّة في أنها قتلت عراقيين وأنها  لم تقتل آخرين، كُرداً مثلاً، ممن لا يستجرّ قتلهم كل هذا الغضب وردود الفعل الرسميّ والشعبيّ وحتى الدوليّ، وهو خطأ معزوّ لضعف أداء الجيش والمخابرات التركية التي ما عادت تميّز أين ينبغي لقذائفها وصواريخها أن تسقط وأنه بات يتعذّر عليها التمييز بين سُكّان الإقليم وبين السيّاح أو الوافدين، وربما لم يُخطئ القصف مرماه إذ أن الغاية هي الترويع وإشاعة القلق في نفوس السكان وبالتالي يكون الخطأ في هذه الحالة في عدم احتياط الجيش لوجود مَن هم  من غير الكرد، فيما الأكيد أن القصف البربري لم يُخطئ هدفه الأساس وهو استباحة الإقليم وأمن سكانه.

يبدو أن الصَّدع في العلاقات التركية العراقية سيتعمّق، وسيغدو مُكلفاً على أربيل بدرجةٍ أساس، والسبب الأوضح خلال التجربة الممتدة منذ مذبحة روبوسكي وحتى الآن، هو أن الحكومة التركية لم تعد تلتزم بما يمكن تسميته “قواعد القتل”، والتي يمكن اختصارها بقتل الكُرد دون سواهم.

 لأجل ذلك كله، قد يصحُّ القول بأن  مذبحة روبوسكي مثّلت اللحظة الأكثر درامية في مسيرة العدالة والتنمية وقدرته أن يتحوّل إلى آلة قتل مُريعة تنال من الكرد في كل مكان، وعليه، لا ينبغي أن تصبح مذبحة مصيف زاخو رخصة موازية لتلك التي حازتها الحكومة التركية في روبوسكي لقتل كل ما هو غير كرديّ أيضاً.

شورش درويش