عودة الشرق الأوسط إلى أهميته

هناك أحد عشر شهراً بين منظرين، وهما منظر دخول قوات حركة طالبان إلى العاصمة الأفغانية كابل في يوم 15 آب/ أغسطس 2021، وانهيار الحكومة الموالية لواشنطن هناك في ظل عملية قرب اكتمال الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان وفق الاتفاق الموقع من واشنطن مع طالبان في 29 شباط/ فبراير 2020، ومنظر الرئيس الأميركي جو بايدن في إسرائيل يوم الخميس الماضي ومنظره في السعودية باليوم التالي عند استقباله من قبل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على مدخل قصر السلام بجدة.

ففي كابل كان يوم 15 آب/ أغسطس 2021، فصل جديد من النزعة الانسحابية الأميركية من الشرق الأوسط (منطقة الشرق الأوسط وفق المصطلح الأميركي تمتد من أفغانستان حتى المغرب وهو اختصاص القيادة العسكرية المركزية الأميركية الموجودة في قطر)، والذي كان فصله الأول الانسحاب العسكري من العراق الذي اكتمل في اليوم الأخير من عام 2011 والذي كان لا يفصله سوى أربعون يوماً عن إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما في البرلمان الأسترالي عن اتجاه أميركي للتركيز على الشرق الأقصى حيث التحدي الصيني.

وبين بغداد وكابل كانت هناك فصول عدة لهذه النزعة الانسحابية الأميركية، منها الاتفاق النووي مع إيران في 14 تموز/ يوليو 2015، رغم احتجاجات الحلفاء الإقليميين في تل أبيب والرياض ومنها الموافقة الأميركية على الدخول العسكري الروسي إلى سوريا في 30 أيلول/ سبتمبر 2015. أيضاً كان أحد العناوين الكبرى لهذه النزعة الانسحابية تصادم بايدن مع السعودية منذ دخوله البيت الأبيض قبل سنة ونصف أولاً من خلال نشره لتقرير وكالة الاستخبارات المركزية – CIA، عن مقتل خاشقجي، وكان ترامب قد وضعه في الدرج، وتعهدهِ بعدم مقابلة ولي العهد السعودي، ثم رفع الحوثيين من القائمة الأميركية للإرهاب، وبعدها اتجاهه منذ نيسان/ أبريل 2021 نحو مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني.

هنا، كان الذي تبدل في الأحد عشر شهراً الماضية، وأحدث الفرق والمنعطف هو الحرب في أوكرانيا منذ يوم 24 شباط/ فبراير 2022، أولاً من خلال أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد دفع واشنطن نحو سياسة المواجهة الاستراتيجية مع موسكو ثم وضعها هي وبكين في سلة واحدة من خلال بيان قمة حلف الأطلسي – الناتو في مدريد أواخر الشهر الماضي، وهو اتجاه أميركي جديد تجاه بكين وموسكو، بدأ مع وثيقة “استراتيجية الأمن القومي الأميركي” الموقعة في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2017، على ما يبدو أن الحرب في أوكرانيا قد سرعت في عجلاته. على ما يظهر أن أوكرانيا قد جعلت وثيقة 2017، موضع التطبيق، رغم محاولات الغزل الأميركية للصين في آذار/ مارس الماضي، والتي يبدو أنها لم تعمر طويلاً. العامل الثاني، وهو أيضاً كان مرتبطاً بالحرب في أوكرانيا، كان ارتفاع أسعار الطاقة وما ولده من تأثير داخلي معاشي أوروبياً وأميركياً، ثم الصدمة التي أحدثها المنظر الأوكراني وهو أن بوتين هو المتحكم باحتياجات الغاز والنفط عند الأوروبيين وما ولده هذا من تفكير عند الأوروبيين والأميركان بضرورة تجاوز هذه الحالة وتصفير الاعتماد الغازي- النفطي الأوروبي على الروس، وهو ما لا يوجد بديل حقيقي عنه سوى في الشرق الأوسط ومن ضمنه شمال أفريقيا.

في هذا السياق يأتي قول الرئيس بايدن في إسرائيل عن أن “بإمكاننا مواصلة قيادة المنطقة وعدم إحداث فراغ تستغله الصين وروسيا”، وهذا يعني إعلاناً أميركياً عن التراجع عن سياسة عمرها الآن أحد عشر عاماً من الاتجاه الانسحابي الأميركي من منطقة الشرق الأوسط، لهذا ترافق هذا القول في إسرائيل والسعودية مع مصالحة أميركية- إسرائيلية مثلتها وثيقة “إعلان القدس” التي هي بمثابة وثيقة اشتراطية إسرائيلية وافقت عليها واشنطن كشروط للعودة للاتفاق النووي مع إيران تتضمن “هيكلاً إقليمياً متيناً” بين إسرائيل وجيرانها، ومع مصالحة أميركية- سعودية كان عنوانها، ليس فقط أن ولي العهد هو الذي اصطحب الرئيس الأميركي لمقابلة والده من مدخل القصر، وإنما أساساً أن الأمير محمد بن سلمان هو الذي قاد الوفد السعودي في المحادثات مع الرئيس الأميركي والوفد المرافق، وهذا المنظر الأخير لا يشي فقط بمدى حاجة واشنطن للرياض في اللحظة الراهنة وإنما يصرخ، هو و”إعلان القدس”، عن مدى عودة الشرق الأوسط إلى أهميته عند الأميركان.

هنا، هذه العودة للأهمية ليس فقط بسبب النفط وإنما أيضاً لإدراك أميركي مستجد بأن اتجاه واشنطن الانسحابي يمكن أن يولد فراغاً “تستغله الصين وروسيا” وفق تصريح بايدن (ولاحظوا كيف وضع الصين أولاً ثم روسيا) وفي هذا المجال يجب تذكر “مشروع أيزنهاور” لملء واشنطن فراغ الانسحاب البريطاني- الفرنسي من المنطقة، الذي طرحه الرئيس الأميركي عام 1957 لقيادة المنطقة وملء الفراغ فيها خوفاً من أن يستغله السوفيات في ظل أجواء الحرب الباردة.

طبعاً، هنا يجب الإشارة إلى أن وثيقة “إعلان القدس” فيها قبول ضمني إسرائيلي بعملية إحياء الاتفاق النووي مع إيران، ولكن في ظل “هيكل إقليمي”، على الأرجح أنه هو الذي أشار إليه الملك الأردني قبل أشهر عن “ناتو شرق أوسطي”، يطمئن حلفاء واشنطن الإقليميين ويكون طريقاً لدمج إسرائيل في المنطقة وربما طريقاً بالنهاية لدمج إيران في المنطقة أيضاً في ظل صراع مع الأولى بدأ عام 1948 ومع الثانية منذ عام 1979. كان ملفتاً هنا، حديث بايدن في إسرائيل عن “الطريق الديبلوماسي كطريق أفضل لعودة إيران للاتفاق النووي” مع تلميحات عن الخيار العسكري لمنعها من امتلاك السلاح في حال رفضها لما قاله بايدن عن أننا “قدمنا ما نريد من إيران.. وننتظر الرد ولكن ليس للأبد”، في زمن ما بعد زيارة الرئيس الأميركي لإسرائيل والسعودية حيث أصبح موقف واشنطن أمام طهران أقوى. ويلفت النظر كذلك استبعاده حل قريب للقضية الفلسطينية حيث يبدو أن “دمج إسرائيل في المنطقة” سيكون سابقاً وليس لاحقاً لحل القضية الفلسطينية.

كتكثيف: كان “مشروع أيزنهاور” عام 1957 افتتاحية المجابهة الأميركية- السوفياتية في منطقة الشرق الأوسط. وعلى هذه الشاكلة ستكون إعادة الشرق الأوسط إلى أهميته عند واشنطن عنواناً لمواجهة أميركية مع الصين وروسيا في المنطقة. من جهة ثانية، ستكون زيارة بايدن للمنطقة تحسيناً للوضع الأميركي التفاوضي مع إيران فيما يخص العودة للاتفاق النووي وفق الشروط الأميركية، وإلا فإن الوضع الإقليمي الجديد الذي ستهيكله الولايات المتحدة الأميركية سيكون أرضية ملائمة لواشنطن، ومعها تل أبيب، من أجل شن حرب على إيران تخضعها عسكرياً وسياسياً تماماً مثلما أخضعت حرب 1967مصر عسكرياً وسياسياً.