ناسا وصور الكون السّحيق.. هل اكتشف الإنسان نفسه؟

نشرت وكالة الفضاء الأميركية ناسا، مجموعة جديدة من الصور للكون السّحيق، وهي أطياف صدرت عن هذه النجوم البعيدة منذ 13 مليار سنة ضوئية والآن وصلت إلى الأرض!!.

من المؤكد أن هذه الكواكب والنجوم التي تبدو في الصور قد تحوّلت من مكانها هذا منذ ملايين السنين وربما هلكت واندثرت وغارت في الثقب الأسود، ولكن طيفها الذي أرسلته وسار إلينا بسرعة الضوء قد وصل الآن.

من المدهش أن أبعد مكان وصل إليه الإنسان في هذا الكوكب هو القمر ولا يزيد بُعده عن الأرض عن ثانية وثلث فقط بسرعة الضوء، وهو طموح حصل قبل خمسين عاماً ثم توقف فلم يتكرر أبداً.

أما أبعد سفينة فضاء غير مأهولة فهي سفينة فوياجير 2، التي انطلقت من الأرض عام 1977، من وكالة ناسا في فلوريدا، وفيها صورة رجل وامرأة وأصوات الإنسان وأنواع من الأطعمة والألبسة، وهي تسبح في الفضاء منذ 45 عاماً وتُرسل الصور إلى الأرض، وعلى الرغم من سرعتها البالغة 15 كم بالثانية الواحدة فإنها وبعد نحو نصف قرن، فإنها لم تقطع بسرعة الضوء إلا يوماً أو بعض يوم، وقبل سنوات فُقد الاتصال بها وباتت سابحة في المجهول إلى الأبد.

ولا شكّ أن هذا الحدث العلمي الهائل مالئ الدنيا وشاغل الناس اليوم، ومع أن المعلومات قديمة ولكنها الآن باتت معزّزة بوسائل أكثر دقة وموضوعية، وستكون إطاراً للبحث العلميّ واكتشاف المدهش والجديد.

ولكن، هل ستنجح هذه المعارف في تصحيح وعينا بالحياة، والتوقّف عن الغرور والأنانية في علاقتنا بالكون والأمم الأخرى، ونهاية التصّور البائس بأننا شعب الله المختار وأن باقي الأمم ضالّون أو مغضوب عليهم ولا أمل لهم في رضوان الله وعالمه الفسيح؟.

لقد بات مؤكداً اليوم أن كوكبنا كله بأبراره وأشراره وأنبيائه وشياطينه ومؤمنيه وكافريه، وسلفه وخلفه.. لا يُعادل حبة رمل تائهة في المجرّة، وأن المجرّة نفسها تائهة بين ألف مليون مجرّة.

هذه الحقائق باتت تفرض علينا أسئلة صعبة في التوحيد، وتدفعنا بقوة لإعادة تقويم ما تعلّمناه ودرسناه، والتوقّف عن اعتبار أنفسنا مركز العالم وأن الله تعالى لا شغل له في هذا العالم إلا هذا الشعب البائس، وانتصاراته الموعودة على شعوب الأرض.

نعم لقد تعرّضت العقائد الدينية دوماً لأشكال من الغلو والأنانية حيث اعتبر الكهنة من كل دين؛ بأن الخالق العظيم لا يقبل إلا منهم وأن البـشر الذين لا يلتزمون بتقاليدهم وممارساتهم في العبادة مجرمون سافلون يهتزُّ غضباً منهم عرش الله، ويتعيّن قتالهم وإرغامهم لإعادتهم إلى الدين الصحيح، ولو كان ذلك عن طريق حروب دامية واجتياحات ضارية.

متى يدرك الكهنة في الأديان كلها أن الله رب العالمين، وأنه لا يخلق الكون عبثاً وأنه لو شاء (لجعل الناس أمة واحدة)، ولا يزالون مختلفين، وأنه (لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).

الكون العظيم ماضٍ في أفلاكه السابحة، والله سبحانه (كل يوم هو في شأن) (وما قدّروا الله حقّ قدره) (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه)، (يخلق ما يشاء ويختار)، (ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يصفون).

ولكن الغرور لم يتوقف عند حد احتكار السماء للفرقة الناجية، بل إن الفرقة الناجية نفسها أيضاً لم تعد ناجية، وإنه لأمر مؤلم ومحبط أن نتحول في رؤيتنا لجبروت هذا الخالق العظيم لنتصوره غاضباً لا شغل له إلا لعن النامصة والمتنمصة والواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والرجل الذي لم يتنزه من بوله والرجل الذي لم يسبغ ماء الوضوء على عقبيه، وغير ذلك من الروايات التي أساء واضعوها إلى كمال الله تعالى، والتي تصور الخالق بشكل لا يليق بجلاله، وتدفع هذه الأمة أن يلعن أولها آخرها، وأن نختنق بسوء الظن والريب، ونطلق وكلاء عن الرب سبحانه يكتبون بأيديهم قوائم أهل الجنة وأهل النار!.

تقدم العلوم الحديثة رؤية أخرى للطبيعة وآفاقاً لا تنتهي لاتساع الكون وجبروته وكبريائه، ويفترض تماماً أن يزداد وعي الإنسان بهذا العالم من حوله وأن يدرك أن الإيمان بالخالق يستلزم الإيمان بالمخلوقات، وأن عظمة الخالق من عظمة العالم من حوله، وأننا نسيء إلى الإيمان حين نتصور أن هذه الأكوان التي لا تنتهي محكومة بالجغرافيا التي ورثناها عن آبائنا، وأن الله تعالى قد فشل في إصلاح العالم فلم ينج إلا دين بعينه وشعب بعينه في حين يؤول الجميع إلى نار الجحيم.

قد تكون هذه سؤالات في اللاهوت وقد لا نفهم سبب وجود هذا الجدل هنا على صفحة سياسية، ولكنني مؤمن بأن أسئلة اللاهوت لا بد أن تلقي بظلالها على عالم الناسوت، وأننا في النهاية أمة يقودها الإيمان، فلنجعل هذا الإيمان إذن موصولاً بحقائق العلم، ولنشرع في إصلاح وعينا بالتوحيد بحيث ننزه الله تعالى عن العبث والظلم، وخلق الأمم بلا طائل ليكونوا حطباً للنار، في حين أنه يمنحنا (لأسباب غير مفهومة) صكوك الغفران ومنازل الجنة.

يقف العالم مذهولاً أمام عجائب الطبيعة، وأمام جبروت الخالق وسلطانه في العالم، ولكنني أعتقد أن أبلغ الدروس التي تحملها هذه المشاهد الرهيبة، أننا نسكن هذا العالم في زاوية صغيرة قاصية منه، أمة بين الأمم ولسنا أمة فوق الأمم، وأن علينا أن نصحح وعينا بزملائنا في الكوكب وزملائنا في الكواكب التي لم نكتشف منها شيئاً بعد، وأن نعمل لإخاء إنساني يتجاوز النرجسية التي يتصورها كل أهل دين في دينهم، وهي الأوهام التي غرسها الكهنة وتجار الدين وفرقت بين الأخ وأخيه والجار وجاره، وبدلاً من نشر الحب والتسامح نشرت في الأرض الأنانية والغرور.