خطبة الحج الأعظم

هل نشهد أفول خطاب الكراهية؟

يعتبر يوم عرفة أقدس الأيام في الإسلام، حيث تتم فيه أهم الشعائر الإسلامية في العالم، وهي وقفة عرفة التي تسبق الحج الأعظم، وهو إعادة للذكرى الجميلة التي ارتقى فيها النبي الكريم هذا المنبر وأعلن الإخاء الإنساني بصورة واضحة: أيها الناس.. إن ربكم واحد وإن أباكم واحد … كلكم لآدم وآدم من تراب.

ولكن هذه الخطبة المضيئة العامرة بالخطاب الإنساني النبيل تعرضت لاغتيال مريع عبر خطاب الكراهية الذي استطاع أن يصعد المنبر ذاته ويقدم خطاباً متناقضاً بالكلية، وعلى مدى المائة عام الماضية كانت خطبة عرفة مناسبة لإعلان إكمال الدين وبطلان الأديان الأخرى واحتكار الحقيقة وبيان ضلال العالمين ووجوب التبرؤ من اليهود والنصارى والأديان كلها (يشمل 78% من سكان كوكب الأرض) وإظهار الكراهية والبغضاء لهم بوصفهم أعداء لله ورسوله ولو لم يظهر منهم أي عداء تجاه المسلمين! وفوق ذلك فإنه لا يترك الإشارة أيضاً إلى وجوب التبرؤ من الأشاعرة والصوفية والباطنية والمبتدعة المسلمين (يشمل 70 % من المسلمين أنفسهم)

وكنت أجد نفسي كلما انتهت الخطبة في حال مواجهة مع الكرة الأرضية، فالناس في فقه الخطبة التقليدية كفار ضالون إلا المسلمين من أهل السنة ممن اختاروا منهج السلف في التوحيد، وكانت رسالة واضحة أنه لا يجوز بين المسلم وغير المسلم ود ولا عهد ولا لقاء.

لا يوجد في هذا التوصيف أدنى مبالغة، مع أنه يتعين القول بأن الخطاب لم يكن ينفذ بحرفيته بل كان يروى على أنه مسؤولية ولي الأمر الذي هو أدرى بزمان تنفيذه ومكانه، فيما يكون عامة الناس غير مدركين لخطورة هذه الفتاوى المتتابعة في تصدير الكراهية للعالمين، ولكن حين يعلن خطيب عرفة ذلك، فإن المفسر الداعشي سيجد ما يكفيه ليقوم بالواجب الذي تقاعست عنه الحكومات الإسلامية في مهاجمة هؤلاء الأعداء الذين لا نحتاج لتحديدهم أو تسميتهم فهم عموم أهل الأرض ممن لم يدخلوا في البيعة مع أمير الجهاد وهو الخليفة الداعشي المقيم في الموصل وهو يتوعد بأنها باقية وتتمدد.

تتوجه السعودية اليوم لإدراك بؤس الخطاب التقليدي والآثار المدمرة التي جنيناها من منابر ظلت لعقود طويلة تمارس دون توقف لعن اليهود والنصارى والعلمانيين والباطنية كل خطبة جمعة، وفي موقف لافت قام الديوان الملكي في السعودية بتكليف الشيخ محمد العيسى بإلقاء خطبة عرفات في مسجد نمرة وهي أهم منصة إسلامية في العالم حيث يحتشد حجاج البيت الحرام ملايين ويتابعهم مئات الملايين في كل مكان في العالم.

والشيخ العيسى فقيه سلفي عريق حافظ للقرآن الكريم، وهو عضو في هيئة كبار العلماء في السعودية، ولكنه معروف بانفتاحه الواضح تجاه الأديان الأخرى، وزياراته التي لا تنقطع للكنائس المسيحية والكنس اليهودية ومعابد البوذيين والهندوس وغيرهم من الأديان، وهو يقدم قراءة مختلفة تماماً لعلاقة المسلم بالعالم باعتبار الإسلام ديناً كريماً بين الأديان وليس ديناً متنافراً معادياً للأديان، يتمم مكارم الأخلاق التي جاءت بها الأديان ويصدق ما بين يديه من الكتب المقدسة التي تحترمها شعوب العالم وتتفق مع الإسلام في قيم الأخلاق والمحبة والرحمة.

لم يكن هذا القرار سهلاً على شيوخ التعصب والتكفير وصدرت على الفور مئات الفتاوى الغاضبة التي تعتبر خطبة عرفة مؤامرة على الإسلام والمسلمين، وضجت وسائل التواصل بنشر صور الشيخ العيسى في معابد الأديان، ولقاءاته المتكررة بالكهنة والبطارك والسوامي والغورو، وكان أكثر وشم ساد في فضاء التواصل هو نص صوتي للشيخ المفتي بن باز بصوته يجب على سؤال: ما حكم من قال: إخواننا النصارى؟ والجواب بصوت الشيخ ابن باز بدون تردد: هو كافر مرتد!! يستتاب وإلا قتل!!

إنني غير سعيد بنشر فتوى متوحشة كهذه، ولست من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ولكن حين يقرؤها هنا بضعة آلاف من القرأء فإن من المؤكد أن عدة ملايين قد سمعوها بصوت الشيخ نفسه في منابر إعلامية أقوى وأشهر وأكثر انتشاراً منا تترجم بعشرين لغة ليسمعنا العالم بالصوت والصورة كيف نتحدث لغة متوحشة بحق البشرية لا تؤمن بشيء من رسالة يوم عرفة وخطبة الوداع في المحبة والإخاء الإنساني.

ويمكنك الآن ببساطة أن ترصد في غوغل أكثر من مائة فتوى صدرت خلال اليومين الماضيين عن تحريم الصلاة خلف هذا المرتد! وبطلان الصلاة حتى في الحرم الشريف وفي مشهد عرفة، نكاية بالمحبة والسلام وإخاء الأديان!

بالطبع فكل هذا الغضب متوقع وليس فيه أي مفاجأة، فنحن كما قال عمر بن عبد العزيز نواجه أمراً نشأ عليه الصغير وشاب عليه الكبير يحسبونه ديناً ما هو عند الله بدين.!

ومع أن الخطبة لم تدخل ساحة أي جدل واكتفت بتجنب خطاب الكراهية القديم والابتعاد عنه، وقدمت إشارة عابرة للإخاء الإنساني والمشترك بين البشرية في الأخلاق، ولكن الحملة لم تتوقف وما زالت مستمرة، ويبدو انه شكل الصراع الجديد في ساحة الفكر الإسلامي.

لست معنياً بالأشخاص ولا بالحكومات المنخرطة في هكذا مواجهة، ولا أزعم أنني أعرف أهدافها ومراميها، وأخشى مكر السياسة وعبثها، ولكنني سعيد بوصول الجدل إلى هذه المنعطف الكبير، ومع صعوبة المخاض وعسره وخطورته، خاصة أن هذا التوجه الجديد سيلزم رابطة العالم الإسلامي التي يرأسها الشيخ العيسى، وتضم 1200 فقيه إسلامي سلفي، ينتشرون في العالم وطالما رفضوا بشدة إخاء الأديان، وأنكروا أي ود محتمل بين المسلم وبين الأديان الأخرى، ولكنهم باتوا اليوم في مكان آخر وفي مراجعة مع الذات قد تقلب كل الموازين.

نعم إنني أحلم من جديد أن يصعد على منبر عرفة ومنابر المسلمين كافة من يملك شجاعة الرسول العظيم نفسه الذي أعلن الإخاء الإنساني بوضوح، وقدم نفسه نبياً بين الأنبياء وليس نبياً فوق الأنبياء، وقدم دينه رسالة مصدقة للأديان وليس رسالة ناسخة وماحقة، ونادى برفض لغة الشعب المختار، وأعلن مساواة الأمم في المسؤولية والحساب، وأعلن وجوب الاحتكام إلى العقل ووجوب التوقف عن عبادة الماضي: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسالون عما كانوا يعملون.