مبادرة غراهام: واقعية أم حالمة؟

برز اسم السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام إبان قرار الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب الانسحاب من شمال شرقي سوريا، بوصفه واحداً من معارضي قرار الانسحاب، ولأجل ذلك وقف الرجل على رأس مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ ممن حاولوا ثني الرئيس عن تنفيذ انسحاب كارثيّ يؤدّي بالضرورة إلى إحياء تنظيم “داعش” بعد أن كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولعل مهمة إقناع رئيس بلغ أعلى مستويات الشعبوية والضحالة الاستراتيجية مرّت عبر إقناعه بأن البقاء سيقترن بحماية آبار النفط وتخفيض عدد القوّات الأميركية العاملة إلى نحو مئتي جندي، فيما كان عدد الجنود الفعلي أعلى بكثير وفقاً لرواية  المبعوث الأميركي إلى سوريا الأسبق جيمس جيفري الذي أعلن في وقت لاحق أنه وزملاءه قد أخفوا عن الرئيس  العدد الحقيقي لقوات بلاده في سوريا.

بيد أن غراهام الذي بدا أنه يجيد التسويات ويتمتّع بحسٍّ براغماتيّ، عُرف عنه أيضاً أنه راديكاليّ ويروق له أن يقدّم نفسه على أنه محافظ على طراز الرئيس السابق رونالد ريغن، وأنه لا يتهاون في شأن أعداء الولايات المتحدة، وخاصة إيران التي وصفها بأنها محكومة من قبل نظام نازي وأنها مأخوذة بقصة تفوّقها الديني الممزوج برغبتها امتلاك أسلحة نووية، وكذا فإن موقفه من روسيا بدا شديد الراديكالية، وجدير بالتذكير قوله عن الحاجة إلى بروتوس روسي، في إشارة إلى قاتل الأمبراطور الرومانيّ يوليوس قيصر، والمعنى المراد من ذلك أنه دعا إلى اغتيال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبطبيعة الحال تنصّل البيت الأبيض من مسؤوليته على اعتباره “ليس بياناً أو تصريحاً صادراً عن أي شخص يعمل في الإدارة”، فيما يُظهر أن عدوّه الذي لا يتهاون معه، في موازاة عدائه لإيران وروسيا، يبقى تنظيم “داعش” سواء أكانت خلايا التنظيم أم الآلاف من سجنائه في سجون قوات سوريا الديمقراطية.

وقد يكون لمسألة حؤول السيناتور دون تنفيذ حكومة بلاده الانسحاب أواخر عام 2019 أن منحته جرعة ثقة زائدة وأدت إلى اعتداده بنفسه بوصفه صانع تسويات ناجح، طالما أن الغاية الفضلى لتسوياته هي إلحاق الهزيمة المبرمة بتنظيم “داعش”.

وفي ضوء ذلك خطّ غراهام رؤيته للوصول إلى تسوية بين تركيا والإدارة الذاتية في مقال نشرته شبكة فوكس نيوز، قبل أن يبدأ رحلته التي بدأها في أنقرة وعرّج بعدها على العراق وأربيل ثم إلى شمال شرقي سوريا.  بيد أن رؤية السيناتور بدت شديدة الالتباس، وتجريبية، وربما مقطوعة الصلة بالواقع، ذلك أنه أراد إرضاء الأتراك عبر التأكيد على أمنهم القوميّ وتكرار ذلك في غير موضع من المقال، ودون أن يوضح المقصود بالأمن القومي التركي والذي يعني في مضمونه الصريح قمع الكرد وملاحقتهم واضطهادهم، في حين جاء التجريب عبر تعويله على العلاقات التجارية بين تركيا وشمال شرقي سوريا التي بإمكانها إنتاج كميات كبيرة من النفط الأمر الذي “سيعود بالفائدة على كل من سوق النفط العالمية، واقتصاديات شمال شرقي سوريا وتركيا” وفي هذا مبالغة تفتقر إلى الأرقام أو تتحدّث عن ثروة نفطية مهولة لكن في بلاد أخرى غير سوريا.

وإمعاناً في التركيز على أمن تركيا، دعم غراهام بيع مقاتلات إف 16 لتركيا في اتساق مع موقف إدارة بايدن، وهو ما يعني أن الجزرة حلّت محل العصا في التعامل مع تركيا، رغم “استدارة” الأخيرة تجاه طهران (عدوّة غراهام) وبما يشي باحتمالات نجاح الوساطة الإيرانية بين دمشق وأنقرة، وهو ما قد يطفو على السطح بعد التاسع عشر من الشهر الحالي خلال زيارة الرئيس التركي لطهران واجتماعه بنظيره إبراهيم رئيسي، فيما أبدت طهران تفهمها أيضاً “للمخاوف الأمنية التركية” ما يعني أن إيران قد تمنح تركيا ضوءاً أخضر في منبج وتل رفعت، والحال أن كل الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية بمقدورها استخدام الجملة المفتاحية “نقدر المخاوف الأمنية لتركيا”، بالتالي تنزع هذه العبارة السحر عن مبادرة غراهام ولا تمنحه إلى ذلك الأفضلية، خاصة وأنه يسعى للمحافظة على علاقته بقوات سوريا الديمقراطية أيضاً، وهو أساس المشكلة بالنسبة لتركيا التي تواضب على صيغة التخيير الثابتة: إما نحن أو الكرد!

وبمعزل عن الأغراض التي تبدو نبيلة في مبادرة ليندسي غراهام والتي قد تكون مشفوعة بدعم إدارة بايدن الديمقراطية، إلّا أنها تبقى مبادرة حالمة بالنظر إلى حقيقة أن الاقتصاد والتجارة والاستثمارات في منطقة تعجّ بالنوازع العرقية والصراعات الإثنية والطائفية لم تشكّل البديل الفعليّ لأفكار الحرب والسيطرة والاحتلال، ثم إن شمال شرقي سوريا التي تستعد لحرب محتملة، وإن وقعت في الضفة الغربية للفرات، باتت أقرب لاستكمال إبرام تفاهماتها الدفاعية مع دمشق وبرعاية روسيّة كردٍّ موضوعيّ إزاء ضبابية مستقبل العلاقة بين قسد والولايات المتحدة، وكسل الأخيرة في ردع الاعتداءات التركية المتواصلة.

والحال أن زيارة السيناتور ليندسي غراهام لتركيا المتطلّبة والغاضبة، ومن ثم جولته في شمال شرقي سوريا وزيارته لسجن الحسكة المكتظ بسجناء “داعش” ومخيم الهول قد يخفف من حدّة التفاؤل التي عبّر عنها في مقاله، لكن زيارته ومشاهداته  ستعزّز من يقينه بأن الحرب التركية لن يستفيد منها سوى “داعش” على ما أشار إليه في متن المقال، وأنه “عندما يظهر داعش في الشرق الأوسط مجدداً، فإن أسلوب حياتنا هنا في الولايات المتحدة سيكون مهدداً”، وبذا نعثر على مفارقة جديدة إذ أن أمن الولايات المتحدة يمرّ بأمن شمال شرقي سوريا، لا بأمن تركيا القومي فقط.

المناقشات التالية وجلسات الاستماع في الكونغرس التي ستعقب نهاية جولة غراهام هي التي ستكشف لنا إن كانت مبادرته واقعية أم حالمة، وهي التي ستكشف عن قدراته في إعادة التركيز على شمال شرقي سوريا مجدداً بوصفها تبعاً لقوله “منطقة مضطربة”.