العقوبات الاقتصادية وتأثيرها على الشعب السوري

من المعلوم أن العقوبات الاقتصادية قد فُرضت على سوريا أولاً من قِبل الدول العربية، بعد فشل مبادراتها لحلّ الأزمة، لتُفرَض لاحقاً من قِبل تركيا وبعض الدول الأوروبية، لتتوج من ثمَّ بقانون قيصر الأمريكي الذي بدأ تطبيقه عام 2021.

ومن أجل رصد تأثير هذه العقوبات على الشعب السوري خلال الأشهر التسعة الأولى من انتفاضة السوريين، قمت بعدة جولات على المصارف السورية والأجنبية العاملة في اللاذقية، ومراكز الصيرفة، وكذلك على أسواق سلع التجزئة ذات الصلة بحياة المواطنين السوريين، وقد لفت انتباهي مجموعة من الظواهر التي تؤشّر بمجملها على ردود فعل السوريين تجاه العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الجامعة العربية وتركيا ودول أخرى على سوريا في حينها، كنوع من الضغط على النظام السوري ليتراجع عن خياره الأمني في قمع الاحتجاجات الشعبية.

اللافت، مثلاً، أن القسم الذي يستقبل المودِعين في مصرف الادّخار كان خالياً تماماً من المتعاملين، في حين كانت الصالة أمام نوافذ قسم السحب مزدحمة بهم، وعندما سألت البعض منهم عن سبب سحبهم لمدّخراتهم؛ أجاب قسم منهم بأنه يريد أن تكون أمواله في بيته بمتناول اليد، لأنه ليس واثقاً من عدم تعرّضها لمخاطر في حال بقيت في المصرف، وقسم آخر أجاب بلا تردد بأنه يريد تبديلها بالعملة صعبة أو الذهب حفاظاً على قيمتها. تكاد تكون الصورة مقلوبة تقريباً تلك التي شاهدتها في أحد فروع المصارف الأجنبية حيث كان المودِعون كُثر في حين كادت تخلو نوافذ السحب من المتعاملين.

في أسواق سلع التجزئة لفت الانتباه؛ تزاحم الناس على شراء السلع الاستهلاكية وخصوصاً الغذائية منها وذلك من أجل تخزينها، الجميع كان يتحدث بخوف من المجهول القادم. لكن الذعر هو الذي يدفع الناس إلى القيام بسلوكيّات اقتصادية خاطئة، خصوصاً في غياب أيّة علامات على انفراج الأزمة التي أخذت تعصف بسوريا. لقد أدى التزاحم المُفرط على السلع الاستهلاكية خلال الأيام التي تلت صدور العقوبات العربية على سوريا، إلى ارتفاع أسعارها بصورة جنونية وغير مبررة. وقد ساهم ذلك، في غياب أية شبكة أمان حكومية؛ مما دفع التجّار إلى استغلال الأوضاع ورفع أسعار سلعهم أيضاً.

على صعيد الاقتصاد الكلّي، أشار أحد التقارير الاقتصادية الدولية إلى أن الاقتصاد السوري قد خسر نحو 27 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من عمر الأزمة السورية. وبغض النظر عن دقة هذا الرقم فإنه يمكن القول، إن قطاع السياحة قد توقف بصورة شبه كاملة، وتأثرت نتيجة لذلك جميع الفروع والنشاطات الاقتصادية التكميلية. إضافة إلى ذلك، فقد تراجع حجم التبادل التجاري الخارجي بنحو 30%، بحسب بعض المصادر شبه الرسمية، وتقلّص الادّخار نتيجة ميل الناس للاكتناز، وتراجع بالتالي الاستثمار كثيراً، ليتوقف تقريباً في المشاريع ذات الكثافة الرأسمالية. وبدأ يتأثر كثيراً قطاع النفط إنتاجاً وتسويقاً واستثماراً مما أثر على حصيلة النقد الأجنبي الذي كانت تجنيه الحكومة السورية من تصديره، وأخذ السوق الداخلي لمنتجاته يعاني من تقلّصٍ نتيجة ضعف الإمدادات، فظهرت طوابير السيارات والمواطنين أمام مراكز توزيع الوقود.  بكلام آخر بدأت في ذلك الوقت تظهر ملامح أزمة اقتصادية حقيقية في سوريا، مع أن العقوبات الاقتصادية المفروضة كانت لا تزال في بدايتها.

لكن بعد نحو أحد عشر سنة من استمرار الأزمة السورية، واستعصاء الحل بسبب تعنّت النظام، وفشل المعارضة في تقديم بديل مقنع محلياً ودولياً، عداك عن انقسامها وتشرذمها وخضوعها لإرادات ومصالح خارجية، أخذت الأزمة طابعاً كارثياً على كل الصُعد الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية للشعب السوري.

 وكان من نتائج الأزمة، دمار مدن وبلدات بكاملها، وتمزّق الجغرافيا السورية، إلى مناطق نفوذ دولية مما دمّر شبكات الإمداد بين هذه المناطق، وخسر الاقتصاد السوري أكثر من 400 مليار دولار من أصوله وقدرته، هذا عداك عن هجرة كثيفة لكثير من طاقاته إلى الخارج. اليوم لا يزيد الإمداد بالكهرباء عن ساعة في اليوم، وجرة غاز واحدة كل ستين يوم وأكثر، وتضررت الخدمات الطبية والتعليمية كثيراً، عداك عن الارتفاع الكبير في أسعار كل السلع وخصوصاً الغذائية منها، الذي زاد أكثر من عشرين ضعفاً عن مستواها في عام 2010، في حين لم تزد الرواتب والأجور عن ثلاثة أضعاف. وإذا كان سعر صرف الدولار في السوق الموازية في بداية الأزمة بحدود 50 ل.س( السعر الحكومي 46 ل.س)، صار اليوم يقارب حدود الأربعة آلاف ل.س(2500 ل.س سعر الصرف الرسمي)، وفي ذلك تكثيف شديد لعمق الأزمة الاقتصادية التي تعيشها سوريا.

لقد قيل في حينها، أن العقوبات الاقتصادية التي أقرتها جامعة الدول العربية وتركيا وغيرها من الدول الأوروبية تم انتقاؤها بذكاء حتى لا تؤثّر على الشعب السوري، وقيل الشيء ذاته على قانون قيصر الأمريكي، وهذا قول مجاف للحقيقة، فلا توجد عقوبات موجهة لا تُلحق الضرر بالشعب السوري. إضافة إلى ذلك، أصبح من المشكوك فيه أن تُرغم العقوبات الاقتصادية النظام السوري على تغيير سلوكه ومواقفه من الأزمة، فهو يُدرك جيداً أن العقوبات الاقتصادية لن تًسقط نظامه، كما لم تُسقط أي نظام آخر فُرضت عليه( مثال كوبا والعراق وغيرهما) بل الشعوب هي من تدفع الثمن دائماً.