قرابين توسيع الناتو

يمكن تلمُّس حجم الدعاية المبالغ فيها التي صوّرت المفاوضات التي دخلتها السويد وفنلندا مع نظيرتهما أنقرة في شأن الموافقة على طلبهما بالإنضام إلى حلف شمال الأطلسي، والتي صوّرت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منتصراً، وخضوع الدولتين الاسكندنافيتين ومن خلفهما واشنطن لمطالب أردوغان، وقد يكون مبعث هذه المبالغة هي السعادة المفتعلة التي تبديها الحكومة التركية وأنها توصّلت إلى صفقة تنمُّ عن نباهة واقتدار دبلوماسيّ، فيما تبدو مسألة وجود صفقة بالفعل موضع شك، ذلك أن بعد قليل من إبرام الاتفاق الثلاثي الذي أبرمته الدول الثلاث (تركيا والسويد وفنلندا) على هامش قمة حلف شمال الأطلسي، هدّد الرئيس التركي مجدّداً بإعاقة انضمام السويد وفنلندا إلى التحالف.

بدت قائمة “المشتبهين” الأولية شديدة التواضع وقابلة للاحتواء، إذ طبقاً لوزير العدل التركي فإن المطلوبين هم ستة من أعضاء حزب العمال الكردستاني، ومثلهم من حركة رجل الدين التركي فتح الله غولن، وتريد تركيا من السويد تسليم 11 من أعضاء حزب العمال الكردستاني و 10 من أعضاء جماعة غولن، فيما بدا أن الأسماء لم تحوي شخصية عرف عنها التورّط في أعمال عنف أو ما شابه، الأمر الذي يجعل من الإدّعاء التركي مجرّد مزاعم قابلة لأن تخضع لإجراءات قانونية داخلية في هاتين الدولتين الاسكندنافيتين.

لكن أردوغان عاد ونسخ الرقم الأولي “33” لتصبح مطالبته بتسليم “73 إرهابياً”، هي الأساس لتنفيذ الاتفاق الثلاثي، الأمر الذي أربك استوكهولم، إذ صرّح وزير العدل السويدي بأن الإجراءات ستخضع للقضاء السويدي المستقلّ، وأن الكلمة الفصل ستكون للمحكمة، بمعنى أن المبدأ هنا فوق سياسيّ، فهو قانونيّ محض.

مع التسليم جدلاً بأن الفيتو التركي كان يرمي إلى تحقيق هذه “النجاحات”  فإن الأمر يبدو مجافياً للواقع، ذلك أن هاتين الدولتين لا تدعمان حزب العمال الكردستاني ولا حركة فتح الله غولن، بل تكاد مقاربتهما في إيواء اللاجئين السياسيين الكرد مساوية لمقاربة بقية الدول الأوربية، بفارق أن انحياز السويد كان واضحاً في المستوى العشبي والسياسيّ لدعم حقوق الكرد، أو أقلّه تسجيل اعتراضات نزيهة على اضطهادهم في تركيا وإيران وسوريا والعراق.

لعلّ النصر الحقيقي الذي ظفرت به تركيا تمثّل بالمكالمة الهاتفية بين رئيسها  ونظيره الأمريكي. فقد تعاطت إدارة بايدن، وتحديداً شخص الرئيس مع الحكومة التركية بحذر شديد، وعلى نحو مخالف عن سياسة الإدارة السابقة، الأمر الذي وضع الحكومة التركية في موضع الحكومة المنبوذة، وغير المرحّب بسياستها الخارجية التي تعارضت بطولها وعرضها مع السياسة الأمريكية، فضلاً عن الافتراق الذي تسببت فيه الرؤية الأمريكية التي جاهد بايدن في ترسيخها انطلقت من فكرة مؤدّاها بناء ما يشبه النادي أو أخوية تضم النُظم الديمقراطية في العالم، وبمقدورها استثناء الأنظمة التسلّطية حتى وإن كانت حليفة تقليدية للولايات المتحدة، وقد كانت تركيا على رأس القائمة المستثناة من الحظوة الأمريكية، ولولا الأثر الكبير للحرب الروسية على أوكرانيا ما كانت لتتبدّل سياسة بايدن الشرق أوسطية.

في ميزان ما تحقّق في مدريد خلال اليومين الماضيين، يمكن عكس الصورة الظاهرة في المرآة، فقد وافقت تركيا إبطال الفيتو على انضمام السويد وفنلندا دون أن تتحصّل على تنازلات أمريكية، وهو ما أكّده البيت الأبيض سريعاً، وقد عبّر جو بايدن عن موقفه الشهر الماضي وثقته بتراجع تركيا وأن الأمور ستكون على ما يرام وأنه لن يضطّر لزيارة تركيا لأجل ثني الأتراك عن الفيتو، وهو ما حصل. ويبدو أيضاً أن مطالبات أنقرة بدت متواضعة إذ اقتصرت على صفقة شراء طائرات إف 16 والتي ستُدرج على جدول أعمال البلدين ولكنها ستمرّ بموافقة الكونغرس عليها رغم تأييد بايدن لها، فيما تراجع الأتراك عن ربط الفيتو بمطامح باتت بعيدة المنال، مثل إعادتهم إلى برنامج مقاتلات إف 35، أو الحصول على ضوء أخضر لتنفيذ عملية عسكرية في شمال شرقي سوريا، والحال أن ما حقّقته تركيا لم يكن أكثر من نصر دعائي يصعب إنفاقه في الداخل التركي المأزوم سوى على شكل صورة مضخّمة لمكانة تركيا ودورها، وجدير بالإشارة أن أردوغان بارع في مسألة رسم هالات وأخيلة حول دور ومكانة تركيا الخارجية وعلوّ كعب بلاده.

والمعنى أن من حقّق نصراً فعلياً دون أن يُقدم على تنازلات جسيمة هو الطرف الأمريكي، فيما تبقى إعادة الاعتبار لصورة أردوغان الذي تعرّض لتهميش ونبذ أمريكي هو التنازل الوحيد الذي قدّمه بايدن. لكنه يبقى تنازلاً وإن بدا تنازلاً ضئيلاً.

وبالعودة إلى المطالبات التركية، فإن وقعها بدا قاسياً على سياسيّ السويد وعلى القوى الحيّة التي ترفض الانصياع لإملاءات أنقرة وسياساتها، فعوضاً من إقناع تركيا بالعدول عن سياساتها العقابية تجاه الكرد والمعارضة التركية، قد يتورّط البلدان في سياسات تركيا ودوائرها اليمينية، ولنا أن نتخيّل اللاجئين الكرد مسلّمين للسلطات التركية التي تحتفظ إلى الآن بحوالي 12 ألف سجين سياسي كردي معظمهم موالٍ لحزب الشعوب الديمقراطي أو منخرط في أنشطة مدنية وحقوقية، والمعنى أن ما ترمي إليه تركيا هو توريط السويد، وبدرجة أقل فنلندا، في مسلسل انتهاكات حقوق الإنسان، وهو تورّط استفزّ أكاديميين وسياسيين ومسؤولين سابقين في استوكهولم، حيث لا ينبغي أن يكون ثمن الانضمام للناتو هو العبور على حقوق اللاجئين الكرد وقضاياهم.

في إزاء فكرة جعلت الكرد قرابين توسيع الناتو، يأتي ما يمكن تسميته بحسب هيغل “مكر التاريخ”، حيث بات لنائبة كردية هي أمينة كاكاباوا المقدرة على سحب الثقة من حكومة الأقلية السويدية حال انصياعها لرغبات أنقرة، وهو ما يصعّب فكرة اللعب تحت الطاولة بين أنقرة وستوكهولم.