المناطق المحتلّة بوصفها ملاذات “داعش” الآمنة

شورش درويش

فجر الخميس الفائت، ألقت قوّات التحالف الدولي القبض على واحد من أبرز قياديي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) المتمرّسين في صناعة القنابل والمتفجّرات، وهو هاني أحمد الكردي، قبل ذاك حيّدت قوات التحالف زعيمي التنظيم تباعاً، أبو بكر البغدادي وأبو إبراهيم القرشي، فيما القاسم المشترك بين الشخصيات “الداعشية” هذه هو أنهم لاذوا بمناطق الاحتلال التركي في سوريا، الأمر الذي يضعنا أمام احتمالين، الأوّل أن تكون المخابرات التركية والمتعاونون السوريون معها على درجة من الضعف لا تسمح لها إمكانياتها بالكشف عن المتسرّبين “الدواعش” إلى مناطقها، وهو احتمال على درجة من الضعف نظراً لقوّة جهاز المخابرات التركيّ وإلمامه بدقائق الأمور في المناطق المحتلّة، فضلاً عن أن المتعاونين يوفرون عبر التقارير والوشايات مورداً هاماً لتدفّق المعلومات.

وأما الاحتمال الثاني، هو تحويل مناطق الاحتلال إلى ساحة خلفيّة لقيادات التنظيم وشخصياته المهمّة، إن توظيفاً لهم في مرحلة لاحقة، أو بالاستفادة من مشاغباتهم المباشرة في مضايقة قوات التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”.

ولا تجد تركيا مشكلة في إدماج من انسلّ من صفوف “داعش” داخل هيئات المعارضة التي تتبعها، كما في حالة ضمّ حسين رعّاد العنصر السابق في صفوف “داعش” وأحد مسؤولي الحسبة في التنظيم، والذي تمّ اختياره عضواً في الائتلاف رفقة 12 شخصاً آخرين ضمن مشروع الائتلاف الموسوم بـ”خطة الإصلاح واستكمال مشروع التوسعة”، وبعيداً عن التندّر والسخرية من اسم المشروع “خطة الإصلاح” التي انتهت إلى ضم “داعشيّ”، فإن تنقّل عنصر من التنظيم إلى داخل الائتلاف لم يمر بمرحلة انتقالية أو بمطهَر سياسي، إنما حملت عملية الاحتضان/التوسعة كل المعاني الفظاظة والجلف، وقد يكون مردّ الأمر، رفع المسؤولين الأتراك منسوب تحدّي الولايات المتحدة من خلال رسالة تفيد بأن أنقرة حرّة في اختيار حلفائها حتى وإن كانوا عناصر في التنظيم طالما أن واشنطن تتحالف مع قوات سوريا الديمقراطية، ولا يهم إثر ذاك وصف السياسة التركية بالتهوّر أو الإضرار بمصالح واشنطن طالما أن رؤية واشنطن وأنقرة متباينتان إلى حد الاختلاف من الأزمة السورية.

الغالب على الظن أن أنقرة لا تتحرّج أيضاً من تكشّف مسألة ضلوعها في تيسير تنقلات عناصر “داعش” بل وحمايتهم من المساءلة القانونية، وقد يكون من المفيد الإشارة إلى حالة واحدة، من بين حالات كثيرة، تشي بطريقة تعاطي السلطات التركية مع عناصر التنظيم، ففي وقت لاحق أطلقت السلطات التركية سراح الجهادي المطلوب أورهان موران الذي كان قد أدين بانضمامه لتنظيم “داعش”، مستغلة بذلك ذريعة تفشّي وباء كورونا وازدحام السجون، ليستفيد 90 ألفاً من الإفراج المؤقّت بينهم عدد كبير من الجهاديين، في حين لم تشمل الإفراجات النزلاء السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان والمعارضين، وزاد من حدّة الانتقادات أن الإفراجات طاولت زعيم المافيا علاء الدين تشاكجي المقرّب من زعيم الحركة القومية دولت بهجلي، ولعل الوصف الأنسب لسلوك الحكومة التركية هو ما قاله معارضون بأن الرئيس التركي أردوغان يعتمد على سياسة “الباب الدوّار” حيث أن إلقاء القبض على المطلوبين الجهاديين لا يعدو كونه مرحلة تسبق الإفراج عنهم سريعاً ودائماً عبر ذات الباب الذين دخلوا منه إلى السجون. باب النظام القضائي.

وتعكس العلاقة المريبة بين السلطات التركية والجهاديين صورة “الدولة العميقة” واستطالاتها، وقد تذكّر بالأدوار القذرة لحزب الله التركيّ، والذي كانت واحدة من غايات تشكيله التصدّي للحركة اليسارية والقوميين الكرد لاسيما حزب العمال الكردستاني، فيما الاستعانة بالجهاديين والجماعات الدينية لمواجهة القوى اليسارية، حيلة قديمة، اختُبرت في مصر وأفغانستان والسودان، سواء بفعل قوى خارجية سعت إلى تقويض القوى اليسارية أو عبر تدخّل الأنظمة وسعيها إلى إقامة توازن رعب بين الجماعتين المتخاصمتين على طول الخط.

وبالعودة إلى عملية إلقاء القبض على هاني أحمد الكردي، في الحميرة شمال حلب، فإن الملاحظ هو تزامنها مع استعدادت تركيا لشنّ عملية عسكرية خامسة داخل الأراضي السورية، وقد تحمل العملية الأميركية توكيداً للمخاوف المتصلة باحتمال أن تلحق عمليات تركيا العسكرية وتوسعّها ضرراً بخطط التحالف الدولي في الاستقرار والتضييق على “إرهابيي داعش”، وبالتالي تصبح العملية أقرب إلى تلميح مكشوف لدور تركيا في التغطية على أنشطة قادة التنظيم وعناصره المؤثّرة، وقد لا يغيب في ذات الاتجاه عمليات إعادة تدوير عناصر التنظيم عبر منحهم فرص عمل ضمن فصائل المعارضة المسلّحة على ما تحمله عناصر التنظيم من مشاعر ثأر ورغبة في الانتقام من قوات سوريا الديمقراطية.

أيّاً يكن من أمر، تكشف العمليات العسكرية للتحالف الدولي في مناطق الاحتلال التركي، وغالباً في شمال غربي سوريا، ثلاث مسائل رئيسية: الأولى أن تلك المناطق تمثّل بؤرة وملاذاً آمناً لعناصر التنظيم، والثانية أن لا حلفاء للولايات المتحدة في مواجهة الإرهاب سوى قوات سوريا الديمقراطية، فيما ثالث المسائل وأهمها هو أن واشنطن تغضّ الطرف عن كل تلك الأنشطة التركية ولا تجابهها بالملفّات والوقائع وتكتفي بتوجيه رسائل عبر مطاردة عناصر التنظيم داخل مناطق الاحتلال التركي، ولئن كان الصمت الأميركي متأتّياً من الرغبة في الحفاظ على العلاقة مع تركيا والحؤول دون أي تصعيد سياسيّ، إلّا أنه ينعكس على أداء قوات التحالف، الأمر الذي يضعنا أمام تناقض بين الدور العسكريّ الأميركي على الأرض وبين أداء الخارجية الأميركية المتحفّظ على قول شيء للمسؤولين الأتراك، وقد يكون هذا التناقض سبباً إضافياً في صعوبة دحر تنظيم “داعش” واستدامة الحرب على الإرهاب.