دائرة النفوذ الإيرانية

أستعيد ما قاله مسؤول روسي رفيع المستوى كان في زيارة إلى بيروت لوفد من هيئة التنسيق الوطنية، بُعيد صدور بيان جنيف عن مجموعة العمل الدولية بشأن سوريا في الثلاثين من حزيران 2012، من أن إيران “لن تسمح بسقوط النظام السوري حتى لو اضطرت إلى إرسال فيالق من جيشها إلى سوريا” فهو من دائرة نفوذها الاستراتيجية. حسبتُ قول المسؤول الروسي في حينه نوعاً من الضغط على المعارضة السورية لكي تقبل بتسوية سياسية استناداً إلى بيان جنيف الصادر حديثاً، لكن على ما يبدو اليوم أن ما تفوَّه به المسؤول الروسي بعبارات فجَّة وخالية من الدبلوماسية كان يعنيه تماماً. في الواقع كان معارضون كُثر قد سمعوا مراراً أقوالاً تحمل المعنى ذاته من مسؤولين إيرانيين سواء خلال زيارتهم إلى طهران أو إلى سفارتها في دمشق.

إن علاقة إيران بدمشق أكثر من واضحة، وهي معلنة ورسمية وذات طابع استراتيجي بحسب ما يصرِّح به مسؤولو البلدين بصورة متكررة. لقد حاولت الدوائر الغربية وتحديداً الأميركية منها على وجه الخصوص، فك عُرى هذه العلاقة، وعرضت من أجل ذلك مغريات كثيرة على السلطة السورية، منها ما له علاقة بالتسوية السياسية مع إسرائيل، ومنها ما له علاقة بالأزمة الراهنة التي تعصف بسوريا، والتي وجدت فيها هذه الدوائر فرصتها التاريخية السانحة لتغيير “سلوك النظام” السياسي، سواء تجاه إيران، أو تجاه حزب الله، أو حتى تجاه إسرائيل. يجري الحديث عن تغيير سلوك النظام السياسي، وليس عن إسقاطه، لأن هذه الدوائر ما أرادت يوماً إسقاط النظام، بل إضعافه، لأنها تدرك جيداً خطورة ذلك على إسرائيل، وعلى أمن المنطقة بصورة عامة، التي مثَّل فيها عامل استقرار حاسم. لقد رفضت السلطة السورية جميع هذه المغريات-المحفِّزات لها وأصرت على بقاء علاقاتها بإيران قوية، بل عملت على تطويرها وتمتينها.

بدورها إيران كانت تدرك جيداً أهمية سوريا الاستراتيجية بالنسبة لها، وأن كثيراً من الضغوطات التي تعرضت لها سوريا كانت بسببها لجعلها تقدم تنازلات على صعيد ملفها النووي، لذلك فهي قابلت مواقف السلطة السورية بمزيد من الدعم والتأييد. فهي لم تكتفِ خلال الأزمة الراهنة التي تعصف بسوريا بتقديم الدعم الاقتصادي، بل زودت القوات السورية بكثير من العتاد العسكري، وأرسلت مستشارين عسكريين إيرانيين لتقديم الخبرة والمشورة للقوات السورية. وعندما بدا أن موازين القوى أخذت تميل لصالح المعارضة السورية المسلحة، خلال عام 2013 دفعت بحليفها القوي حزب الله لكي يرسل بعضاً من قواته إلى سوريا، كما شجعت ميليشيات شيعية عراقية وأفغانية وغيرها للقدوم إلى سوريا لمساندة قوات النظام.

وإذا كان التدخل الإيراني غير المباشر في الأزمة السورية قد حدت منه في السابق الإمكانات الاقتصادية الضعيفة لإيران من جراء العقوبات الخانقة التي فرضتها عليها الدول الغربية بسبب ملفها النووي، فإنها بعد التوصل مع مجموعة (5+1) إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي اختلف الوضع. بداية فقد تحرر اقتصادها من العقوبات الغربية عليه، وزادت التدفقات النقدية إلى خزائنها هذا من جهة، ومن جهة ثانية فالذرائع جاهزة لتبرير تدخلها المباشر في سوريا أو في العراق، أو في غيرهما من الدول العربية.

بالطبع كانت إيران بحاجة ماسَّة لرفع العقوبات عنها لتطوير اقتصادها المنهك، ولتحسين مستوى حياة الشعب الإيراني، وهذا ما أشار إليها روحاني في خطابه بعيد التوصل إلى اتفاق مع الدول الغربية بشأن ملفها النووي، لكن ليس على حساب مناطق نفوذها. كانت إيران تعد مشروعها النووي الذي شرعنه الاتفاق مع الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا (مجموعة 5+1) نوعاً من الاعتراف بدورها الإقليمي ونفوذها. لكن بعد انسحاب أميركا منه في عهد إدارة دونالد ترامب، صار نفوذها ورقة ضغط مهمة لإعادة التزام أميركا به في عهد إدارة جو بايدن.

إن إحدى الحقائق الجيوسياسية الاستراتيجية في الشرق الأوسط التي ترتبت على غزو أميركا للعراق في عام 2003 ، وإسقاط نظام صدام حسين، بدعم وتأييد من دول الخليج العربي، توسيع دائرة النفوذ الإيرانية لتشمل دولاً عربية أخرى. ومما لا شكَّ فيه بأن نفوذ إيران سوف يتعزز أكثر فأكثر بعد هزيمة قوى التطرف والإرهاب التي تجتاح المنطقة، لكن في هذه الحالة لن تكون إيران هي ذاتها ما قبل الاتفاق النووي. في إطار عملية الاحتواء الاستراتيجي التي تمارسها أميركا ومعها الدول الغربية تجاه إيران لن تنزعج من دورها في المنطقة، طالما أنها تقبل بالتعامل معهم وفق قواعد “الربح والخسارة”. وليس مستبعداً أن تسهِّل الدول الغربية لإيران “الكبيرة” و”القوية” والتي تملك “رؤية استراتيجية” بحسب توصيف “أوباما” لها، تعزيز دائرة نفوذها، من أجل ضمان تقيدها بالاتفاق النووي، والمساعدة في محاربة قوى التطرف، وحل أزمات المنطقة، حتى ولو كان ذلك على حساب مصالح حلفائها التقليديين في دول الخليج. باختصار ما يهم أميركا والدول الغربية عموماً هو عودة إيران دولة طبيعية في المجتمع الدولي، وفي هذه المسألة لا شك بأنها سوف تجد من يلاقيها في الداخل الإيراني، وهذا ما أشار إليه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، وغيره من المسؤولين الإيرانيين في أكثر من مناسبة.