المناعة المجتمعية من الحكم الدكتاتوري

محمد سيد رصاص              

في شهر تشرين الأول عام 1964 انتفضت عبر مظاهرات، الغالبية الكبرى من المجتمع السوداني، وشاركت بها أحزاب “الأمة” و”الاتحادي” و”الشيوعي” و”الاخوان المسلمون” واتحاد العمال وطلاب جامعة الخرطوم، ضد الحكم العسكري للفريق ابراهيم عبود، وأسقطته ليأتي حكم برلماني حزبي بعده.

وللمرة الثانية وعلى غرار انقلاب عام 1958، حصل انقلاب عسكري بقيادة اللواء جعفر النميري عام 1969الذي استمر حكمه لستة عشر عاماً، كما أن اسقاط النميري أيضاً وإقامة حكم برلماني حزبي ثاني عبر انتفاضة جماهيرية ثانية لم يمنع من حصول انقلاب عسكري عام1989 قام به التنظيم العسكري للجبهة الاسلامية بقيادة الفريق عمر البشير الذي استمر حكمه لثلاثة عقود من الزمن حتى تم اسقاط حكمه بانتفاضة دخل عليها انقلاب عسكري أزاح البشير عن السلطة في يوم11نيسان2019.

وكان الفرق في سودان مابعد11 نيسان/ أبريل 2019 ، أن العسكر لم يستطيعوا الإنفراد بالسلطة ،وقد اضطروا بعد أربعة أشهر لعقد اتفاق شراكة مع المدنيين في الأحزاب السياسية وفي النقابات المهنية، وقد كانت هذه الشراكة مضطربة وكان اضطرابها يعود لضيق العسكر من محاولة المدنيين منعهم من الإنفراد في صنع القرار.

وهذا ما دفع المكون العسكري السوداني إلى الانقلاب العسكري في 25 تشرين الأول/ أكتوبر2021على اتفاق الشراكة والانفراد بالسلطة، والأشهر الثمانية الماضية هي دليل على أنه قد فشل في ذلك، وهو ما تبين من خلال استجابته للضغوط الدولية، ومن منظمة الاتحاد الأفريقي، من أجل ايجاد تسوية مع القوى المدنية التي منعته من أن يجلس مرتاحاً ووحيداً على كرسي السلطة من خلال مظاهرات لم تنقطع.

وهذا يعطي علامة ومؤشر على أن المجتمع السوداني قد أصبح لديه مناعة من الحكم الدكتاتوري، وهو شيء لم يكن موجوداً في أزمان عبود والنميري والبشير، وبالتالي فإن عبد الفتاح البرهان هو مثال حي على فشل صناعة دكتاتور سوداني جديد.

وعند محاولة تفسير ذلك نجد بأن السبب ليس ضعف تماسك المؤسسة العسكرية وراء البرهان، بل هي قوية التماسك معه كما كان الحال مع سابقيه، وإنما لعدم وجود ظهير مدني وراءه، مثلما حدث مع عبود الذي ظل “حزب الأمة” يدعمه على الأقل للسنة الأولى من حكمه، أو النميري الذي انشق قسم كبير من الحزب الشيوعي ،بزعامة معاوية ابراهيم وأحمد سليمان، في معارضة لسياسة الأمين العام للحزب عبدالخالق محجوب الذي عارض التعاون مع النميري.

كما أن الأخير كان مدعوماً من العروبيين الناصريين وفي “حزب البعث” وفي بقايا “حركة القوميين العرب” وبعد عام 1977 تعاون النميري مع حزب “الأمة” بزعامة الصادق المهدي ومع الإسلاميين بزعامة الدكتور حسن الترابي، من جهته،وجد البشير دعماً من تنظيم “الجبهة الاسلامية” بزعامة الدكتور حسن الترابي وعندما فضً البشير الشراكة مع الترابي عام1999فإن القسم الأعظم من التنظيم الاسلامي قد وقف مع البشير ضد مؤسس التنظيم وزعيمه.

والآن يعيش البرهان من دون سند مدني، وهو رغم أنه يملك، إضافة لتأييد المؤسسة العسكرية مساندة حركات مسلحة في إقليمي دارفور والنيل الأزرق وقع معها “اتفاقية جوبا للسلام”، فإنه يقود مركباً مهتزاً لا توجد رياح اجتماعية لأشرعته.

بالتزامن مع السودان، تعيش تونس منذ 25 تموز2021/ يوليو تجربة مماثلة، أظهر التونسيون من خلالها أن لهم مناعة مجتمعية كبرى ضد حكم رئيس الجمهورية، وضع خلافاً لأحكام الدستور، السلطة التنفيذية والسلطة القضائية تحت يديه وقام بحل البرلمان وعطل العمل بالمادة الدستورية الخاصة بالمحكمة الدستورية العليا، وحاول تغيير أعضاء اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات. ضد هذا الدكتاتور الناشئ.

وفي تونس يقف تجمع عريض من اسلاميين وليبراليين واشتراكيين – ديمقراطيون وماركسيين مع غالبية كبرى في الجسم القضائي، ويقفأيضاً ضده (الاتحاد العام التونسي للشغل)، الذي يضم مئات آلاف العمال والمستخدمين، ومن الواضح أن هناك غالبية مجتمعية كبرى ضد قيس سعيد.

وهو ما تظهره الأشهر التي تفصلنا عن 25تموز2021حيث اتحد المتخاصمون السابقون ضده وتناسوا خصوماتهم التي استمرت للسنوات العشر السابقة، وخاصة خصوم الإسلاميين في حركة النهضة، حيث أظهروا بأنهم لا يريدون أن تكون الدكتاتورية هي ثمن التخلص من هيمنة الإسلاميين وألاعيبهم وحكمهم السيء، بل أن يتم ذلك عبر صندوق الاقتراع، الذي كما أوصل الإسلاميين لمرتبة الحزب الأول في ثلاثة انتخابات برلمانية منذ عام 2011، فهو الكفيل بإنزالهم من عليائهم البرلمانية .

بالمقابل، تظهر مصر، من خلال يوم الانقلاب العسكري في 3 من تموز/ يوليو2013، في صورة هي بالتعاكس مع السودان وتونس من حيث مناعتهما تجاه الحكم الدكتاتوري، وذلك عندما وقف ليبراليون وناصريون وشيوعيون وكتلة اجتماعية كبرى، ظهرت في مظاهرة 30 تموز/ يونيو2013، مع الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكم الإسلاميين الذين أتوا لرئاسة الجمهورية عبر انتخابات صندوق الاقتراع.

وهؤلاء المدنيون المصريون فضلوا لمجابهة الإسلاميين سلطة الدبابة، ولم يفضلوا صندوق الاقتراع.

وفي الجزائر أيد مدنيون علمانيون وشيوعيون وسياسيون من قومية الأمازيغ ،انقلاب الجنرال خالد نزار في يوم11كانون الثاني/ يناير1992الذي حصل من أجل منع الاسلاميين من الفوز بغالبية برلمانية، لما أعطت مؤشرات الجولة الأولى من الانتخابات أن الاسلاميون سيفوزون، وهو ما أدخل الجزائر في حرب أهلية استغرقت عشر سنوات قتل فيها أكثر من مئة ألف، ورغم اتجاه العسكر لواجهات مدنية لحكمهم مثل عبد العزيز بوتفليقة وعبدالمجيد تبون منذ عام1999فإن الجزائر مازالت تعاني من عدم الاستقرار السياسي.

كتكثيف هناك مجتمعات أيضاً أظهرت مناعة من الحكم الدكتاتوري بعد تجارب مريرة معه، مثل الإسبان الذين أفشلوا محاولة انقلاب عسكرية قام بها في شباط / فبراير1981، أتباع الدكتاتور فرانكو الذي حكم إسبانيا منذ عام1939 وحتى موته عام1975، وبعده دخلوا في التجربة الديمقراطية عام 1977.

 وهناك بوليفيا التي هي البلد الذي ضرب الرقم القياسي العالمي في الانقلابات العسكرية أوفي محاولات الانقلاب الفاشلة، ولكنها بعد أن دخلت في التجربة الديمقراطية عام 1982، فإنها لم تشهد طوال أربعين عاماً أي انقلاب عسكري بل كانت هناك محاولة انقلابية واحدة ، ولكنها كانت فاشلة، في حزيران 1984لتكون فاصلاً عابراً لساعات في مسيرة النظام الديمقراطي .