“في انتظار البرابرة”

بدت تركيا قاب قوسين أو أدنى بتنفيذ وعيدها باحتلال أجزاء أخرى من الشمال السوري، غير أن ما بدا عليه من تنفيذ عملية عسكرية وشيكة غدا رهين التفاهمات الدولية ومرهوناً بموافقة موسكو بدرجة أساس؛ هكذا يكسب سكان المناطق التي تنتظرها الحرب فرصة البقاء في بيوتهم وقُراهم إلى حين… فصحيفة “حرييت” التركية قالت أن العملية العسكرية ستنطلق “بعد عيد الأضحى بساعات أو أيام قليلة”، فيما لم يعلن المسؤولون الأتراك عن الأسباب الفعليّة لتأخّر تنفيذ التهديدات، ولعلّ التفسير الأقرب هو عدم نضوج التفاهمات التركية الروسية، وقد يكون أحد الأسباب أن تركيا سبَّقت على لسان رئيسها، رجب طيب أردوغان؛ تهديداتها على التفاهمات، في حين أن عملياتها السابقة بُنيت على اتفاقات مسبقة.

والغالب في الظن أن تهديدات أردوغان جاءت تبعاً لقراءة متحاذقة مفادها أن هناك إمكانية للنفوذ إلى شمال سوريا مجدّداً عبر الاستفادة من الاستقطاب الدولي الحاصل في أوكرانيا، وأن بوسع تركيا ترجيح كفّة أحد طرفي الصراع هناك، مما يعني إمكانية إبرام صفقة سريعة تُفضي إلى تنفيذ عملية عسكرية خامسة. إلّا أن التباطؤ الحاصل في تنفيذ العملية يشي بصعوبة الوصول إلى تفاهمات والحصول على ضوء أخضر وفق القراءة التركية الأوليّة.

وتبعاً لربط الحرب التركية المقبلة بملف الانتخابات، فإنه كان من المفترض أن تقع على مقربة من موعد السباق  الانتخابي، بيد أنَّ ما عجَّل مواقيتها هي الظروف القائمة التي قد لا تتكرّر آنذاك؛ أو قد يكون هناك جولة عسكرية/دعائية أخرى قريبة من الانتخابات، الأمر الذي يجعل من الحكومة التركية أشبه بسائق الدراجة الهوائية الذي يتعرَّض للسقوط ما إن توقّف عن الحركة؛ والحركة هنا هي الحرب الدائمة. رغم أن هناك اتجاهات تركية باتت تُقلل من تأثير خطاب الحرب وتحقيق أي توسع داخل سوريا على إرضاء المواطنين الأتراك، أو أن تقوم الحرب بالتعمية على إخفاقات الحكومة في الملف الداخلي.

تضييق نطاق العملية العسكرية وتركّزها في حيّز محدّد، وهو في الغالب منطقتي منبج وتل رفعت وفق ما رشح على لسان مسؤولين أتراك؛ يعني في مكانٍ ما؛ أن شرق الفرات بات أبعد ما يمكن عن متناول أنقرة، ويتزامن ذلك مع موقف واشنطن الرامي إلى التهدئة وخفض التصعيد، وعبر توجيه رسائل ميدانية كإعادة إحياء قاعدة “لافارج” في قرية خراب عشك بالقرب من كوباني، ولعل مخاوف واشنطن الفعليَّة مبنية على قناعتين: الأولى أن الحرب المفتوحة وفق الإعلان الأوّل للرئيس التركي الذي تحدَّث عن عملية عسكرية على طول الحدود وبعمق 30 كم، ستتسبب بإنهاء كل ما تمَّت مراكمته في المعركة ضد الإرهاب (داعش)،أما قناعتها الثانية فهي من شأن الحرب المفتوحة أن تُنهي الشراكة بينها وبين قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وقد يدفع الأمر بقسد إلى التوجّه لحلفاء جُدد، وآنذاك لا يمكن استثناء دمشق وطهران وموسكو من دائرة التحالفات المتوقّعة، وعليه فإن من شأن اتباع قسد لمثل هذا السيناريو الراديكاليّ؛ إنهاء أي دور أمريكي على الأراضي السورية ،وعليه فإن الحؤول دون تنفيذ تركيا لبرامج الاحتلال بات يتصدّر سياسة أمريكا السورية؛ لكنها السياسة المخصّصة في شرق الفرات دون غربه.

وفي موازاة مواقف الخارجية الأمريكية، برز إلى السطح ما نُقل عن تنديد مشرّعين أمريكيين للغارات التركية السابقة التي “تسببت بعرقلة العمليات الأميركية ضد تنظيم داعش”، فيما حثّوا “أنقرة على الامتناع عن أي عمل عسكري شمال سوريا”، وغاية الأمر أن “أي توغل عسكري سيتسبب بنتائج كارثية في الشمال السوري”، ولعل تنامي هذه المواقف يذكّر بمواقف المشرّعين المشابهة أواخر عام 2019 حين قرّر الرئيس الأمريكي الأسبق، دونالد ترامب، سحب قوات بلاده من سوريا في أوج الحرب على خلايا داعش النشطة آنذاك.

يبقى أن المتاح في خطوط المنع التي تواجه تركيا هو الوصول إلى تفاهم مع روسيا، وقد يحصل شيء من ذلك في جلسات أستانا المقبلة، وقد تتمنّع موسكو عن منح أنقرة ضوءاً أخضر، ذلك أن حلفاءها على الأرض ؛ دمشق وطهران، قد يُشكّلان سويةً حائط صدّ حال وصول روسيا إلى تفاهمات لا تأخذ مصالحهما في سوريا بعين الاعتبار، بمعنى أن يكون التفاهم قائماً على مقايضة مناطق في الداخل السوري مقابل مصالح تحققها أنقرة لموسكو في الملف الأوكرانيّ.

وداخل كل هذا المشهد المركّب وما يحفل به من مفاجآت قد تغيّر من مصائر سوريين تقلقهم الحرب وتخيفهم، يصبح الأمر الوحيد الذي يستبدّ بخيال سكان المناطق المهدَّدة هو أن يكونوا في  “انتظار البرابرة” على ما قاله الشاعر قسطنطين كفافيس (1863-1933)، مع اختلاف أن برابرة كفافيس “كانوا حلاً من الحلول” في حين أن البرابرة المجرّبين في عفرين ورأس العين/سرى كانيه وتل أبيض ليسوا سوى آلات قتل وتهجير وقهر.