الحسكة – دلسوز يوسف – NPA
“نقتات على الأموال التي تردنا من الخارج، لم يبقَ أحد في القرية، كلهم هاجروا” بهذه العبارة القصيرة اختصر خوشابا إبراهيم معاناته، ، واحد من بين عشرات المسنين المتبقين في قرية تل جمعة الآشورية من أصل أكثر من /3/ آلاف نسمة، الذين اختاروا طريق الهجرة بحثاً عن حياة أفضل عقب هجمات تنظيم “الدولة الاسلامية” على قراهم بضفاف نهر الخابور عام 2015.
ادت الحرب الدائرة في سوريا منذ اكثر من ثماني سنوات، الى هجرة مئات الآلاف من السوريين إلى الخارج، ومن بينهم أبناء المكون الآشوري في مدينة الحسكة شمالي البلاد، حيث باتت قراهم اليوم شبه خالية من سكانها، بعد اجتياح تنظيم الدولة الاسلامية للمنطقة، واختطاف المئات منهم وتدمير الكنائس والبنى التحتية.
لمحة
يقطن أبناء المكون الآشوري بكثرة في المنطقة الواقعة على ضفاف نهر الخابور بالحسكة، شمال شرقي سوريا، ويبلغ عدد قراهم /36/قرية بريف بلدة تل تمر، ويعتبر الآشوريون من مؤسسي البلدة عقب هجرتهم من شمالي العراق عام 1933، إثر تعرضهم لعمليات الإبادة الجماعية من قبل الحكومة العراقية، تعرف بين الآشوريين بمذبحة “سيميل”.
ويقول خوشابا إبراهيم (85 عاماً)، في حديثه لمراسل “نورث برس” “جئنا من العراق عام 1936 وتمركزنا هنا، فرنسا كانت تحكم المنطقة وقتها، لنبدأ بعدها بوضع الحجر الأساس للمنطقة ببناء منازل من اللبن وتدشين مشاريع اقتصادية”.

وبحسب إحصائيات آشورية، بلغ عدد الآشوريين في الحسكة قبل الأزمة السورية ما يقارب ثلاثين ألف نسمة، ليتبقى حالياً ما يقارب ثلاثة آلاف نسمة فقط، فيما بلغت الأضرار بالبنى التحتية للقرى بنسبة 50%، بينما دمرت معظم الكنائس.
“الصين الشعبية”
ويشير إبراهيم الذي يعاني ضعف في السمع، بأن قريته تل جمعة لوحدها كان يقطنها ثلاثة آلاف نسمة، وكانت تلقب بين سكان المنطقة بـ”الصين الشعبية” نظراً لاكتظاظ السكان فيها، بينما حالياً لم يتبقَ فيها سوى بضع عشرات أغلبهم مسنون.
ويقول بحسرة “جميعهم سافروا، منهم إلى أستراليا أو السويد أو الولايات المتحدة، كلهم تشردوا وراحوا”؛ ليضيف “كان يوجد في قريتنا حوالي /15/ رجل دين، أما الآن لم يبق أحد منهم”.
منوهاً بأن من تبقى في القرية يعيشون اعتماداً على الدعم الخارجي، ويمضي قائلاً “نحن من تبقينا في القرية نقتات على الأموال التي تردنا من المهجر، فإخواننا وأولادنا يرسلون لنا النقود”.
ويشير إبراهيم، بأن معظم الذي سافروا لا يفكرون بالعودة إلى سوريا مجدداً “كما ترى أغلبيتنا مسنون ونسبة الشباب قليلة، لا أعتقد أن الذين سافروا إلى أوربا سيعودون مجدداً، فالحياة هنا باتت شبه مستحيلة بالنسبة لهم بسبب جحيم الإرهاب الذي طال مناطقنا واختطف المئات”.
ويعود خوشابا إبراهيم بذاكرته إلى لحظات هجوم تنظيم “الدولة الاسلامية” على القرى الآشورية “لحسن حظ قريتنا لم يصلنا التنظيم بسبب فيضان نهر الخابور” نظراً لوقوع القرية في الضفة الغربية للنهر، “الكرد دافعوا عن القرية وردعوا التنظيم، لكن القذائف التي انهالت على القرية أجبرتنا على النزوح إلى مناطق الحسكة والقامشلي لحين طرده من المنطقة بشكل كامل”.
اختطاف الأهالي
مع اجتياح “الدولة الإسلامية” لقرى حوض الخابور في منطقة تل تمر، عمد التنظيم إلى خطف المئات من أبناء المكون الآشوري واقتيادهم إلى جهات مجهولة، ليتم بعدها الاتفاق بين أطراف مسيحية والتنظيم بوساطة وجهاء عشائر عربية في المنطقة، للإفراج عنهم بدفع فدية مالية.
وبحسب الإحصائيات أن المختطفين بلغ عددهم /224/، تم الافراج عنهم جميعاً على دفعات، سوى مختطفة واحدة لازالت مصيرها مجهولاً إلى الآن.
كما اقدم التنظيم على قتل ثلاثة من المخطوفين بإطلاق الرصاص عليهم.
الظلم والاضطهاد
جميلة كاكو، إحدى النسوة الآشوريات اللائي تعرضن للخطف على يد “الدولة الاسلامية”، تتحدث لـ”نورث برس” عن ما عاشته حين اختطافها، “تعرضنا للظلم والاضطهاد والحرمان والخوف، طبعاً عانينا الأمرين بفترة تجاوزت السنة، بعض منا استشهد، والبعض الآخر تعرض للتعذيب”.

وتشير كاكو التي أمضت عشرة أشهر في سجون التنظيم، بأن “الاختطاف سبب حالة من الخوف لدينا في ظل فقدان الأمل، وخاصة أننا مسجونون عند داعش الذي لا يعرف الرحمة”.
وتضيف “هذا الأمر كان السبب الرئيسي لتهجير الشعب الآشوري من قرى الخابور الذي كان بمثابة الإبادة الجماعية”.
الحسرة الحاضرة في حديث جميلة تعكس حالة الحزن التي تخيم على القرى الآشورية اليوم، بعدما خلا معظمها من السكان، والتي كانت تشكل, في يوم من الأيام, علامة فارقة في الجزيرة السورية طيلة العقود الماضية.
وللمكون الآشوري في منطقة تل تمر قوتان عسكريتان تنظمان نفسهما تحت لواء قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي، إحداهما قوات “الناطوره” أو اللجنة الشعبية للحرس الآشوري ومهمتها حفظ الأمن الداخلي، إلى جانب قوات “حرس الخابور” وهو مجلس عسكري، وكلاهما يتبعان للحزب الآشوري الديمقراطي.
وخلال سنوات الأزمة السورية فقد /23/ فرداً من عناصر هاتين القوتين حياتهم في الحرب ضد تنظيم “الدولة الاسلامية”.
إعادة الإعمار
عقب طرد “الدولة الاسلامية” من القرى الآشورية في ريف الحسكة، تردد الحديث كثيراً بين اوساط الحركة السياسية الآشورية حول سعيهم لإعادة إعمار تلك القرى، لكن المشروع بقي عالقاً حتى اللحظة دون خطوات ملموسة في هذا المضمار.
ويقول وائل ميرزا مسؤول الحزب الآشوري الديمقراطي – فرع سوريا، في حديثه لـ”نورس برس”، إن “ما حدث للآشوريين يعتبر بمثابة التهجير الجماعي، نحن في الحزب الآشوري نعمل على إعادة إعمار هذه القرى، لكن المسألة ليست بالسهلة، وتحتاج إلى مشروع دولي لدعم هذا الملف”.

ويشير ميرزا بأن لديهم تواصل مع بعض المنظمات الآشورية في الخارج والمنظمات الدولية ذات الشأن لدعم مشروع إعادة الاعمار. مضيفاً “دعوة الشعب المهجر للعودة والسكن في العراء يعتبر هراء”.
كما يربط ميرزا عودة الآشوريين إلى أرضهم بالوضع الأمني الذي يمر به المنطقة, ويقول “الدول الكبرى تنتظر ما تؤول إليه الأمور في القضاء على الإرهاب في سوريا، للبدء بإعادة الإعمار كونها عملية متكاملة، وعليه سنقوم بالتواصل مع شعبنا للعودة إلى منازلهم”.
ويختتم السياسي الآشوري حديثه، مطالباً أبناء جلدته في الخارج بدعم الشعب الموجود في سوريا بالقول “ما نطلبه هو دعم الشعب المتبقي والمؤسسات الموجودة على الأرض؛ ليكون دافعاً لبناء القرى الآشورية وعودة المهجرين إلى ديارهم”.