منذر خدام
من المعلوم أنه خلال العقدين الماضيين شهدت المنطقة العربية تنافساً حامياً بين مشروعين إقليمين كبيرين، هما المشروع التركي، والمشروع الإيراني. وإلى جوارهما كان المشروع الإسرائيلي يجني المكاسب تطبيعاً ونفوذاً اقتصادياً وسياسياً مستفيداً من المناخ العام الذي أوجده هذا التنافس. وللأسف الشديد لم يكن هناك أي مشروع عربي جدي يمكنه الوقوف في وجه هذه المشاريع المتنافسة على المجال الحيوي العربي، بل تم إشغال أغلب الدول العربية بصراعات داخلية مدمرة فيما عرف بـ”الربيع العربي”، تورطت فيها الدول العربية الأخرى لتكون الحصيلة دماراً شاملاً وضياعاً لمئات المليارات من الدولارات التي كان يمكن استثمارها في اقتصاداتها لتعزيز مكانتها وقوتها.
بعد وفاة الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز الذي كان يوصف بـ”المحنك والمعتدل”، وتولي أخيه الملك سلمان مقاليد الحكم، لم يكن أحد يراهن على حصول تغيرات أساسية في السياسة الخارجية السعودية، مع أن ثمة معلومات صحفية وإعلامية متناثرة هنا وهناك، كانت تتكهن بحصول تغيرات في قوام الحكم. وبالفعل ما أن استقر الأمر للملك الجديد حتى شرع في اتخاذ إجراءات ملكية عزل بموجبها بعض أركان حكم أخيه الراحل الملك عبد الله، ليعين محلهم أشخاصاً من المقربين منه. غير أن التوازنات داخل العائلة المالكة حدت من هذه الإجراءات وتطلبت في البداية تعيين محمد بن نايف وليا للعهد، وتعيين محمد بن سلمان نائباً لولي العهد، مع الاحتفاظ بوزير الخارجية المزمن العابر للعهود الملكية الأمير سعود الفيصل. لكن ما إن قوية مكانة نائب ولي العهد، وتفقد الموت وزير الخارجية، حتى عزل محمد بن نايف ليصير هو وحده ولي العهد، والحاكم الفعلي في السعودية، ولتبدأ معه سلسلة من التغيرات السياسية التي أسست لاحقاً لإعادة النظر في دور السعودية في كل الصراعات الداخلية والدولية في المنطقة العربية.
من المعلوم أن السياسة الخارجية السعودية تتولاها من الناحية الرسمية وزارة الخارجية السعودية، لكن تحت تأثير قوي جداً للجهات الأمنية المعنية. وبالفعل ما إن تم عزل بندر بن سلطان من موقع المسؤول الأمني الأول في السعودية حتى بدأت تظهر تباعاً تغيرات في السياسة الخارجية السعودية كانت بطيئة في البداية، لكنها أخذت تتسارع في السنتين الماضيتين، خصوصاً تجاه الأزمة السورية. على ما يبدو فإن السعودية أخذت تنتقل من وضعية الفاعل في أزمات المنطقة كعامل تفجير لها، إلى وضعية التدخل النشط المباشر فيها للعمل على تهدئتها، ومن ثم لحلها، لأنها باتت تهدد أمن دول الخليج ذاتها.
غير أن القيادة السعودية أخذت تدرك أن النجاح في محاربة الإرهاب الموصوف بالشيعي، لم يعد يجدي معه دعم الإرهاب الموصوف بالسني، الذي أخذ ينقلب على الجميع، وإن مواجهة النفوذ الإيراني المتعاظم في دول المنطقة، غير ممكن بدون التحالف مع تركيا ومصر. لكن قيام مثل هذا الحلف الثلاثي الذي لا يخفي طابعه المذهبي، يتطلب إيجاد حل لكثير من المشاكل المعقدة، والتي تتعارض بشأنها مواقف هذه الدول، وبصورة خاصة مواقف كل من مصر وتركيا.
بالنسبة للسعودية المهم هو الحد من طموحات أردوغان في تزعم العالم الإسلامي، وقد ساعدها في ذلك فشل السياسات التركية في أكثر من بلد تورطت فيها بلاده، مما تسبب في أزمات مركبة وحادة لاقتصاد تركيا، الأمر الذي بات يهدد حكمه بصورة جدية في الانتخابات القادمة. لذلك أخذت الحكومة التركية تعيد النظر في سياساتها الإقليمية في مسعى لتحسينها، خصوصاً مع السعودية ومصر وإسرائيل وتطمح لتحسينها مع سوريا والعراق.
أما بالنسبة لمصر فالأهم أن تتوقف تركيا عن دعم القوى الجهادية المتطرفة، التي تصنفها مصر قوى إرهابية، ومنها الإخوان المسلمين، ليس فقط في الداخل المصري، بل أيضاً في كل من سوريا وليبيا. الوجه الآخر لهذا الموقف المصري هو العمل على إيجاد حل سياسي للأزمة في سوريا بمشاركة النظام، وكذلك دعم وتشجيع الحوار بين الليبيين بدلاً من دعم طرف ضد طرف آخر. وعلى ما يبدو بدأت هذه السياسة المصرية تلقى قبولاً في تركيا، فشرعت بإغلاق كل المحطات الإعلامية التي تديرها المعارضة المصرية لنظام السيسي، وطردت جماعة الإخوان المسلمين المصرية من أراضيها، وهي تعترف اليوم بخطأ الاعتماد على الإسلام السياسي كوسيلة للتدخل في شؤون البلدان الأخرى.
وإذا كان الهدف من قيام تحالف بين السعودية وتركيا ومصر واضح بالنسبة للقيادة السعودية، وهو مواجهة المشروع الإيراني التدخلي في المنطقة العربية، لكنه يبقى مشوشاً بالنسبة للقيادة التركية، على وجه الخصوص، نظراً للعلاقات التاريخية التي تربطها بإيران. المهم بالنسبة لتركيا هو الدعم الاقتصادي الذي تريده لتحفيز اقتصادها، وهي من أجل ذلك مستعدة على ما يبدو للحد من تدخلها في شؤون الدول الأخرى، والتوسط للمصالحة بين السعودية وإيران.
من الواضح أن المشكلات التي تعترض قيام هكذا تحالف ثلاثي ليست بسيطة، في مقابل مصالح مشتركة غير واضحة وغير مستقرة، وربما مضخمة كثيراً، ومنها بطبيعة الحال الخطر الإيراني. إزاء كل ذلك وجدت السعودية أنه من الأفضل لها والأقل كلفة، محاولة التفاهم مع إيران، خصوصاً بعد أن صار الاتفاق بشأن برنامجها النووي جاهز للتوقيع. وبالفعل وبحسب مصادر مختلفة فقد تم التفاهم بين القيادة السعودية والقيادة الإيرانية على فتح صفحة جديدة بين البلدين تنقلهما من وضعية المجابهة إلى وضعين الحوار والتفاهم، ظهرت أولى ثمارها في اليمن. من الجيد أن تدرك دول المنطقة الفاعلة أن الصراعات المذهبية مدمرة وأن الحوار والتفاهم يخدم مصلحة الجميع.