دروس وعبر.. أغنياء سوريا وموقفهم من “الثورة”

منذر خدام

يثير السؤال حول دور فئة الأغنياء السوريين في “الثورة” السورية وتحولاتها إشكالات عديدة خصوصاً لجهة حصر وتدقيق المعطيات حول هذا الدور، وكيف تمت تأديته. المقصود هنا فئة الأغنياء المتواجدين في الداخل السوري، أو نزحوا عنه خلال مجريات أحداث الثورة، وليس أولئك المتواجدين أصلا في الخارج من زمن طويل وصاروا مواطنين للدول حيث يديرون استثماراتهم ويعيشون. مع ذلك من المفيد الإشارة، ولو بصورة عابرة، إلى أن دور الأغنياء السوريين في الخارج كان مع الثورة بصورة عامة، وإن شابه بعض التردد في البداية، لجهة الشك بقدرة الشعب السوري على الانتفاضة ضد نظامه المستبد، في ضوء معرفتهم بالطبيعة الأمنية للنظام الحاكم الذي قضى على المجتمع السياسي في البلد، وعمل على تدجين الناس، وتأمين خضوعهم له خلال عقود من السنين سواء بالخوف، الذي حاول جعله عضوياً في نفوسهم، أو عن طريق منظماته الشعبية. لكن مواقفهم من الثورة صارت أوضح مع توسع انتفاضة السوريين لتشمل كل مناطق سوريا، لتبدأ بالتراجع بعد أن طغى الطابع المسلح عليها. هنا أيضاً كما حصل في الداخل السوري بالنسبة للقوى المنخرطة في الثورة، أخذ دعم الثورة، كما الوقوف ضدها، طابعاً طوائفياً بصورة رئيسية، فاصطف أغلب الأغنياء السنة إلى جانبها في حين وقف الأغنياء من الطوائف الأخرى مع النظام.

أما فيما يخص الأغنياء السوريين في الداخل، فقد أخذوا جانب النظام منذ البداية وساندوه وقدموا له مختلف أشكال الدعم. لم تلحظ هنا تمايزات طوائفية تذكر وإن كان ثمة اختلافات في شدة الدعم على أساس الانتماء الطوائفي. تفسير ذلك يكمن في أن البرجوازية السورية إلى جانب فئة رجال الدين كانت من الدعامات الأساسية التي شيد عليها حافظ الأسد نظامه منذ البداية، بعد أن عمل جاهداً على القضاء على روحها الوطنية من خلال توريطها وبكثافة في لعبة الفساد. وعندما استلم السلطة ابنه كان على بينة تامة بوضعية هذه الفئة ومستوى “تغنيجها” من قبل والده، ولذلك عندما طرح مشروعه الإصلاحي في بداية حكمه تحت وطأة الوضع الاقتصادي المذري، لم يحاول أن يقترب من مكتسبات هذه الفئة، بل عمل على تحويل جزء من رأسمالها الطفيلي إلى رأسمال إنتاجي في عملية كانت أقرب إلى تبييض الأموال منها للاستثمار، فأنشأ لها مدناً صناعية في أغلب محافظات سوريا. لقد عملت هذه الفئة خلال نحو سنة من بدء الثورة على بقاء مناطق نفوذها هادئة خصوصاً في حلب ودمشق، وقدمت الدعم الاقتصادي للنظام من خلال الاجتهاد في بقاء دورة اقتصاداتها شغالة، بل وساهم كثيرون منها في تمويل المليشيات المسلحة التابعة للنظام والمعروفة بالشبيحة. لقد كانت هذه الفئة البرجوازية خلال سنة ونصف تقريباً من عمر الثورة تراهن على انتصار النظام، ولا يزال البعض منها يراهن على ذلك، بل ويعمل عليه بالتعاون مع النظام خصوصاً أولئك المقربين منه أو شركائه العضويين. لكن عندما تبين لكثير منهم أن الصراع سوف يطول بدأت عملية تهريب واسعة لأموالها إلى الخارج في عام 2012 وما بعده، مما تسبب في إغلاق أبواب المدن الصناعية تقريباً، وتوقفت عمليات الاستثمار الجديدة كلياً، بل هناك من أخذ يتخلص من أصوله بأسعار بخسة، خصوصاً أثرياء البرجوازية البيروقراطية الجدد. كل ذلك تسبب في تقلص شديد في الدورة الاقتصادية ووضع النظام في وضع محرج جداً. بالطبع استطاع النظام التخفيف من أثر هذه الحالة عليه من خلال تنشيط الدعم الإيراني والروسي له، لكنه في النهاية لن يغنيه عن الرأسمال السوري.

هناك فئة برجوازية تكونت في سياق الصراع استغلته لتحقيق ثروات كبيرة سواء من خلال تجارة السلاح، أو المواد الغذائية والدوائية، وحتى من خلال تهريب الناس والأموال إلى الخارج. هؤلاء يتاجرون بتقديم خدماتهم لمن يطلبها سواء النظام أم المعارضة على الأرض أم الأغنياء التقليديون الذين يودون مغادرة البلاد، وحتى الناس العاديين. إنهم أثرياء النزاعات المسلحة التي لا هم لهم سوى جمع الأموال وتهريبها إلى الخارج أو تحويلها إلى عقارات وأصول ثابتة. لقد ساهم قسم كبير من الرأسمال الذي لم ينجح بالهروب في تنشيط هذا القطاع مستفيدا من ظروف غياب دور الدولة الرقابي والتخطيطي شبه الكامل عنه فنشأت أحياء مخالفات في كل المدن السورية، والبلدات وحتى القرى في مختلف محافظات سورية. بالطبع الاستثمار في هذا القطاع هو نوع من تجميد لرأسمال نقدي في أصول ثابتة يمكن تسييلها عندما تحين الظروف المناسبة لذلك وتهدأ الأوضاع، وليس للمتاجرة بها خلال زمن الصراع المسلح. والخطير في كل ذلك استغلال هذه الفئة للمناطق المدمرة لوضع اليد عليها بأسعار بخسة جداً.

إن البرجوازية السورية بصورة عامة كانت في خدمة النظام، وسوف تستفيد جداً من مرحلة ما بعد الأزمة، فهي تمتلك رأس المال الذي سوف تكون البلاد بأمس الحاجة إليه، سواء لإعمار ما دمرته آلة الحرب، أو لدوران عجلة الصناعة وتنمية الزراعة، وحتى في المجال السياسي سوف تكون الأكثر حضوراً وفعالية، لأنها الأكثر قدرة على عبور خطوط التماس الطوائفية التي لا تعترف بها أصلاً، ولأنها في ظل الديمقراطية سوف تكون لها مصلحة حقيقية في وحدة السوق على كامل الأرض السورية.