أردوغان.. الكابوس والرهانات

يعيش أردوغان هاجس الصعود الكردي في سوريا والعراق وتركيا والمنطقة عموماً، وبات هذا الصعود يشكل قلقاً يخيم بظلاله على أحلامه التوسعية، لطالما بات الكرد يكسبون أوراق القوة من خلال التحالف مع القوى الدولية الكبرى، ويؤسسون لتجاربهم الخاصة، ويمتلكون السلاح، ويبنون البنى التحتية المعبرة عن كينونتهم القومية في البنيان الحضاري العام للمنطقة بعد قرن من محاولات محو هويتهم ووجودهم، أمام هذا الحضور الكردي المتصاعد، تستقيظ هواجس تركيا الدفينة، خاصة أنها ترى في الكرد قنبلة تاريخية في خاصرة دولتها القومية التي قامت على دفن الهويات القومية للشعوب غير التركية بعد أن قسر أتاتورك كل شيء لصالح من هو تركي ضد كل من هو غير تركي، والقضية هنا لا تتعلق بالداخل التركي فقط بل بالجوار الجغرافي التركي الذي توزع الكرد فيه بحكم الاتفاقيات الدولية التي رسمت خرائط وحدود دول المنطقة عقب الحرب العالمية الأولى، وعليه باتت أنقرة ترى في كل تحرك كردي، شأناً تركياً داخلياً يهدد أمنها القومي، حتى لو كان الأمر يتعلق بعضوية السويد وفنلندا في حلف شمال الأطلسي (الناتو).

من كوباني التي ألحقت أول هزيمة بداعش، مروراً بأربيل التي تعيش كينونة شبه دولة مستقلة، وصولاً إلى البرلمان التركي الذي أوصل إليه حزب الشعوب الديمقراطية أصوات نحو سبعة ملايين كردي وتركي، لا تنام العقارب المعششة في رأس أردوغان المحمل بالأحلام الجامحة، وكلما ضاقت به الأمور، لا يجد أمامه سوى التهديد بعملية عسكرية جديدة ضد الكرد، رافعاً شعار حماية الأمن القومي التركي، مستغلاً موقع تركيا الاستراتيجي في خريطة الصراعات الدولية، معتمداً على أدواته التي صنعها من رماد الحرب السورية التي أحرقت الأخضر واليابس معا، وعليه عندما وجد أن شجرة سلطته تهتز مع اقتراب موعد الانتخابات التركية الرئاسية والبرلمانية، وأن ثمة فرصة وفرها الصراع الدولي الناتج عن الحرب الروسية – الأوكرانية، وجد في التصعيد ضد شمال شرقي سوريا فرصة ذهبية لإجبار الكرد على التجاوب مع المقولة التركية التاريخية، وهي قول (حاضر أفندم) وإلا فإن الفناء سيلحق بكم، وهو بهذه الخطوة يريد تحقيق مجموعة من الأهداف دفعة واحدة، لعل أهمها:

1- إسقاط أي طموح لدى الكرد، وتحميل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا مسؤولية ذلك، بوصفها تابعة لعدوه اللدود حزب العمال الكردستاني، مع أن تركيا تحارب الكرد في كل مكان بغض النظر عن أيديولوجياتهم ومشاربهم واختلاف مدارسهم الفكرية والسياسية.

2- التخلص من قضية اللاجئين السوريين في الداخل التركي، وتحويلهم إلى أداة للتغيير الديمغرافي والسياسي في شمال شرقي سوريا، على أمل أن يزيد كل ذلك من شعبية أردوغان في الداخل بعد أن تحول اللاجئون السوريون إلى قضية جدل سياسي بامتياز مع انطلاق معركة الانتخابات التركية مبكراً، إذ أن مثل هذه الخطوة ستزيد من شعبيته التي تتراجع يوماً بعد آخر، فضلاً عن أنها تعزز نفوذه في الأوساط القومية التركية المتطرفة. 3- وضع تركيا يدها بشكل نهائي على قسم من الأراضي السورية، وفرض التقسيم الفعلي في سوريا، خلافاً لشعاراته المرفوعة التي تتحدث عن ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وهو شعار يريد من تحت ستاره كسب الشرعية لخطواته من قبل بعض الأوساط العربية القومية والإسلامية.                                                                     4- ابتزاز أوروبا وأمريكا من خلال ربط ما هو مطلوب منها في إطار عضويتها في الناتو بدفع الأخير إلى دعمها ضد الصعود الكردي، مع أن الكرد والحلف في تحالف واحد في الحرب ضد الإرهاب، لاسيما داعش، فعلى الأقل هذا ما تمارسه تركيا في قضية انضمام كل من السويد وفنلندا إلى عضوية الحلف.

5- في العمق، وبعد تخلي أردوغان عن الإخوان المسلمين من أجل التقارب مع مصر ودول الخليج العربي وإسرائيل، يرى في مجمل استراتيجيته السابقة طريقة لعودة “داعش” مجدداً إلى الساحة، وإمكانية استخدامه من جديد لتهديد الدول والشعوب في المنطقة من أجل فرض أجندته.

في الواقع، يدرك أردوغان أن الصعود الكردي بات العامل الوحيد الذي يلجم أطماعه التوسعية، وعليه يستغل كل شيء لوقف هذا الصعود، من خلال محاولاته المستميتة لدفع الانقسام الكردي إلى حرب كردية – كردية مدمرة للطرفين من جهة، ومن جهة ثانية محاولة استغلال الأزمات الدولية من أجل كسب أوراق سياسية لصالح حربه المستمرة ضد الكرد، وهو في كل ذلك يستغل عامل المصالح في العلاقات الدولية، ويدرك في الوقت نفسه جيداً أهمية استغلال منطق الميكافلي الذي يحرك السياسة الغربية، في حين أن هذا المنطق بات مدمراً لاستراتيجية الغرب نفسه بعد أن وصل ابتزاز أردوغان إلى حد تشكيل تهديد حقيقي للغرب ومنظومته الأطلسية، إذ لم تعد مصلحة الغرب نفسه تقتضي مسايرة أردوغان ومنطقه، بل في وضعه أمام مسؤولياته حتى لو اقتضى ذلك رؤية تركيا خارج الأطلسي، حيث بات هذا الأمر يشكل تحدياً للأطلسي مع الدعوات التي تطلق بهذا الخصوص، وربما مصير هذه الدعوات بات متوقفاً على مآلات الحرب الروسية – الأوكرانية، خاصة إذ استمر أردوغان في ابتزاز الغرب في قضية انضمام كل من السويد وفنلندا إلى الناتو.