أفكار لمعالجة التطرف والتقليل من مخاطره

من حيث المبدأ لا يمكن منع ظهور التطرف في أي مجتمع من المجتمعات، إذ هو في الحقيقة عابر للزمان والمكان، ويختلف فيهما ويتطور بأشكال مختلفة. في مقالة سابقة بعنوان “أسباب التطرف في سوريا” كنا قد ذكرنا أن للتطرف ثلاثة أسباب رئيسة هي: أولاً؛ وجود أيديولوجيا وعقائد مغلقة على ذاتها تزعم احتكار الحقيقة، وثانياً؛ وجود مظلومية من نوع ما أو افتراضها، وثالثاً؛ وجود استثمار خارجي في التطرف. ومن المنطقي، بالتالي، أن يركز الحديث عن معالجة التطرف، والتقليل من مخاطره، أو الحؤول دونه، على إزالة هذه الأسباب أو الحد منها. وكنا أيضاً قد قلنا أن التطرف لا ينحصر بمعتنقي أيديولوجيا دون غيرها، لكن في هذه المقالة سوف يتم التركيز على التطرف لدى معتنقي الأيديولوجيا الإسلامية، وفي أكثر أشكاله تطرفاً، أي توظيفه في المجال السياسي باستخدام العنف.

للتطرف “الاسلامي” إذا جازت التسمية جذور في التاريخ تمتد إلى البدايات الأولى منذ أن تم اللجوء إلى العنف لنشر الدعوة الإسلامية، لكن صار له أساس متين بعد وفاة النبي محمد والتنازع على خلافته. في عقائد ذلك الزمن يعد اجتماع الثقيفة نتشة البذرة الأولى له، حيث تم حسم الخلافة لأبي بكر، واحتجاج علي على ذلك في البداية، مع أنه وافق لاحقاً على مبايعته، بل ومبايعة عمر وعثمان من بعده، وصار المستشار الأول لكل منهم. لقد أدى اجتماع الثقيفة دوراً حاسماً في انقسام المسلمين لاحقًا إلى سنة وشيعة تحت عنوان أحقية علي بالخلافة. هذه المظلومية لا تزال تؤدي وظيفتها حتى اليوم للأسف رغم مرون قرون عليها لكونها تحولت إلى مكون من عقائد وأيديولوجيات بعض الفرق الإسلامية.

وإذا كان للطرف “الإسلامي” مسوغاته الأيديولوجية في القراءات الخاصة لكثير من الآيات القرآنية، وفي كثير من الفتاوى المستندة إليها بحسب زعم أصحابها، فإن الممارسات المتطرفة في التاريخ الإسلامي قد شكلت السند الأقوى للتطرف، الذي تمارسه الحركات الإسلامية الجهادية. وبدون الخوض في تفاصيل هذا التاريخ الذي غلب عليه العنف الخارجي مع غير المسلمين (الكفار وفق الأدب الإسلامي) في بداية الدعوة، والعنف الداخلي بين المسلمين أنفسهم لاحقاً، وخصوصاً في وقتنا الراهن، فإن هذا الأخير هو الأكثر انتشارا، وصار يستخدم مسوغات العنف الخارجي، خصوصاً لجهة تكفير المختلف ليس فقط من ناحية المذهب، بل ومن ناحية السياسة أيضاً. بحسب بعض المصادر فقد قتل المتطرفون الإسلاميون من بعضهم في سوريا أكثر مما قتلوا من قوات النظام. بالنسبة للعنف الخارجي يكاد يقتصر على بعض العمليات الإرهابية المتفرقة هنا أو هناك، في هذه البلد غير المسلم أو ذاك.

إن البحث المعمق في أسباب الطرف، وطرق الحد منه، لا بد أن يظهر في المقدمة أهمية دور التنمية الشاملة والمتوازنة، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً في الحد منه. فالتنمية تخلق فرص عمل وتولد مصالح تجعل الناس ينشغلون في تطويرها بما يحسن من مستوى حياتهم. في سوريا للأسف لم تجرِ عملية تنمية شاملة ومتوازنة خلال مرحلة حكم حزب البعث التي لا تزال مستمرة منذ نحو ستة عقود، إذ تم إهمال الريف السوري كثيراً بالقياس إلى المدن، وتم إهمال المناطق الشرقية قياساً إلى المناطق الغربية في البلاد، وخصوصاً قياساً إلى دمشق وحلب. لذلك لم يكن مفاجئاً أن تنتقل شرارة التمرد المجتمعي من بعض المدن (درعا مثلا) إلى المناطق الريفية في المحافظات الأخرى، خصوصاً في أرياف إدلب وحلب ودير الزور والرقة ودرعا.

ويشغل المرتبة الثانية من أسباب التطرف، وطرق الحد منه، التعليم العام، وخصوصاً نوعيته. لقد برهنت الأحداث في سوريا أن الغالبية العظمى ممن حملوا السلاح ضد النظام، أو ضد بعضهم البعض كانوا من ذوي التحصيل العلمي المنخفض، أو أميون. هذا لا يعني عدم وجود قادة ومستثمرين للتطرف من ذوي التحصيل العلمي العالي، الذين كانت تسيطر عليهم الأوهام الأيديولوجية. بحسب بعض المصادر فإن الآلاف من خريجي معاهد الأسد لحفظ القرآن شكلوا جزءاً فاعلاً في الحركات الجهادية المختلفة.

إن التنمية الشاملة والمتوازنة، إضافة إلى التعليم العام غير الديني، على أهميتهما الكبيرة في الحد من التطرف والحؤول دونه، لا يصيران حاسمان إلا في مناخ ساسي مشبع بقيم الحرية والمشاركة والقانون. في مثل هذه الظروف يتوجه التطرف، في الغالب الأعم، إلى العمل السياسي في إطار اللعبة الديمقراطية الحاكمة، كما هو حاصل، في الوقت الراهن، في البلدان المتقدمة. مع أن بعض هذه البلدان قد شهد في الماضي القريب أخطر أشكال التطرف متمثلا في النازية والفاشية والتي كان من نتيجته اندلاع الحرب العالمية الثانية. بعض أشكال التطرف العنيفة استمرت لاحقاً في بعض البلدان المتقدمة، كانت أقرب إلى العمليات الإرهابية، كما حصل في ألمانيا (جماعة بايدرماينهوف) وكما حصل في اليابان (جماعة الألوية الحمراء) بتحفيز من قراءات متطرفة للأيديولوجيا الماركسية. واليوم نشاهد في أوكرانيا بعض مظاهر التطرف بتحفيز من قراءات خاصة للنازية، وبدفع قوي من مظلومية متخيلة أو حقيقة ضد الروس.

إن النظام الاستبدادي الحاكم في سوريا هو أكبر مولد للتطرف، فهو بحد ذاته تطرفاً، إذ منع أية حياة سياسية طبيعية، مستخدماً العنف (الاعتقال والسجن والمحاكمات الصورة الأمنية والقتل)، وإن تغييره إلى نظام ديمقراطي مشبع بقيم الحرية والقانون والمشاركة سوف تحد كثيراً من التطرف العنيف وتقلل من شأن التطرف السياسي أو الأيديولوجي.